طلب أحد الضيوف من أينشتاين أن يريه معمله، فابتسم هذا الرجل العظيم وأمسك بقلمه وأشار به نحو رأسه.. وذلك الرأس من المهم استعراض بعض الحقائق عن كيفية عمل الدماغ فيه، كما استعرضها توني بوزان في كتبه عن استخدام العقل والخرائط الذهنية والذي يؤكد وجود مليارات الخلايا العصبية التي يتكون منها الدماغ، وكل خلية عصبية تتصل بأكثر من ألف خلية أخرى، ويجمع المخ ما يعادل أربعين ألف محفز لكل ثانية، وبنسبة 95 % من المعلومات التي تتم معالجتها في الدماغ يتم الحصول عليها عبر المدخلات الحسية، وخاصة البصر والسمع واللمس.

وهذا الدماغ العجيب والمعجزة للخالق عز وجل يخزن كميةً من المعلومات المعالجَة في يومٍ واحد، ما يعادل معالجة جهاز كمبيوتر ـ من اختراع الدماغ نفسه ـ في عدة سنوات!

حيث يقسم الدماغ إلى فصين (فلقتين) الأيمن والأيسر، وتتم فيهما معالجة الأشياء داخل كل فص، فالفص الأيسر يتناول معالجة منطق الأشياء، والقوائم التي يراها الإنسان أو يدركها من أسطر وكلمات، وكذلك يستقبل الأرقام، والتسلسل في الأشياء من ترتيب وأولوية، وتحليل الأشياء، وبالمقابل نجد الفص الأيمن يهتم بمعالجة النغمات الصوتية، والألوان، والخيال، وأحلام اليقظة، والأبعاد الثلاثية، والمساحة أو الحيز.

وهذا ما يستوقفنا بعد سرد هذه المعلومات العلمية، ليجعلنا نتساءل أي فلقة أو فص من الدماغ له النصيب الأكبر في المعالجة والاستعمال البيولوجي في تعليمنا، إن كان على مستوى المنهج أو المقررات الدراسية أو طرق التدريس أو من قبل المعلمين أو توجيهات المشرفين التربويين، أو حتى ما تعوَّد عليه أولياء الأمور، والطلاب؟

سيكون الناتج بالتأكيد لصالح الفص الأيسر الذي يعالج أغلب معلومات التعليم في تعليمنا، أما الجانب الأيمن فيندر أن يتعلم طلابنا بالنغمة أو باستخدام الخيال أو الأبعاد الثلاثية أو الألوان، ولننظرعندما يتعلم طلابنا القراءة والكتابة والرياضيات وجميع المواد.. فالإجابة يتعلمون بالكلمات والمنطق والترتيب والأرقام، والقوائم التي تذكر بطريقة التدريس في مادة القواعد التي يستعمل فيها أغلب المعلمين طريقة (الجداول) التي ما زالت منذ عهد سيبويه حتى الآن وبنفس الطريقة!

طرق بائدة لا تزال تحت رحمة قوالب تعليمية أصبحت جزءاً من تفكير طلابنا، تعتمد فيه على فلقة واحدة فقط من الدماغ، لذلك علينا ألا نستغرب عندما نجد خللاً في مخرجات التعليم لدينا، فهذا ما تدرب طلابنا على مهارته، وتعلموه في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية، بل جامعاتنا؛ فلقة واحدة أو فص واحد يعمل، والآخر شبه معطل، حتى أصبح عادة لديهم، فمن النادر أن تجد المعلمين أو المشرفين التربويين بل محاضري كليات التربية أو إعداد المعلمين قد تعلموا كيفية عمل خلايا الدماغ، وكيف تؤثر طريقة التفكير في نمو خلايا الدماغ؟ وكيف يستعملون أساليب واستراتيجيات تستثير الفلقتين معاً لتنمية قدرات طلابنا العقلية الهائلة في جميع المجالات؟

قوالب التعليم مازالت تطارد المعلم والطالب معاً، فالذين تدربوا على استخدام جانب من الدماغ سيجدون صعوبة في استخدام الآخر، برغم أن الفصين إن عملا معاً بالاستثارة والتحفيز والدعم فسيكون نتاجه تنمية التفكير حتى الإبداع، فهذا العالم نيوتن اعتمد على خياله، ودافينشي على أبعاده وألوانه وتصويره، وديزني لاند على أحلامه وخياله الواسع.

بقي أن نتتبع طفلاً منذ ولادته حتى دخوله مدارسنا، لنرى كيف تعطل الفلقة اليمنى، فالطفل يبدأ نمو مخه منذ ولادته، وفي العام الأول تكون قد تكونت روابط المخ، وتبدأ معالجة المعلومات دون وعي من بيئته المحيطة به بشكل كبير من خيال وأحلام يقظة.. وينتهي به المطاف حتى دخول المدرسة، فالأطفال يتعلمون بالاستكشاف وبالحرية لمتابعة الأمور التي تثير خيالاتهم، ويحتاجون لفرصة للقيام بنفس الشيء وتكراره ليعالج في الذاكرة، ويصبح عادة إدراكية، ولكن من يسمح لهم بذلك داخل فصولنا ومدارسنا بعد أن تُفرض عليهم قيودنا التعليمية لنقيد حتماً عقولهم وغرائزهم الطبيعية؟

التربوي السويسري والمصلح التعليمي بستالوتزي يقول: "ليس الهدف الأسمى من التربية الوصول إلى درجة الكمال في الأعمال المدرسية، ولكنه الصلاحية للحياة، وليس اكتساب عادات عمياء كالطاعة المطلقة، و لكنه إعداد لحياة العمل الاستقلالية".

وإن أردنا تعليماً يركز على الإنسان وبنائه، وبناء مستقبل لأجيالنا لن يكون أكثر من تبني تعليمنا للمدارس التربوية الحديثة للنشء، مثل مدارس منتيسوري ومدارس ريجيو إيميليا، ففي تلك المدارس الأطفال يبنون معرفتهم بعقولهم كاملة وبأنفسهم، وفيها لا يتم توصيل المعرفة أو إرسالها لهم، ولا يتم إملاء ما يفكرون به من قبل المعلم، بل إنهم يكدون ويناضلون من أجل فهم العالم وفهم كيف يرتبطون به، وهم يفعلون هذا بشكل جماعي، كي يصنعوا إنسانيتهم بأنفسهم من خلال بناء أنفسهم أولأ وبناء مستقبلهم وأوطانهم.