لم يحدث في تاريخ النضال الوطني العالمي للتحرر من الاستعمار؛ أن واجهت قضية صعوبات بالغة كتلك التي واجهها الكفاح الفلسطيني. فلأكثر من قرن من الزمن، منذ عقد المؤتمر الأول للحركة الصهيونية في بازل عام 1895، الذي أقر فلسطين كبقعة مقترحة لتأسيس وطن قومي لليهود، تواصل هذا الكفاح في ظروف دولية وإقليمية ومحلية بالغة التعقيد.

وقفت القوى الدولية العظمى بقوة إلى جانب المشروع الصهيوني، وهو لم يزل في مهده. وقدم البريطانيون وعدا لليهود بمنحهم فلسطين. واستثمر الصهاينة الميثولوجيا الدينية، وعقدة الاضطهاد والتفوق، بما تحمله هذه العناصر من نزعات عنصرية واستعلائية، جرى توظيفها للإسراع في تنفيذ اغتصاب فلسطين.

بعد اغتصاب فلسطين، أصبحت معضلة تحريرها تكمن في تحولها من بلد يحتله البريطانيون بموجب صك انتداب أممي إلى كيان استيطاني، أصبح السكان الأصليون فيه أقلية. وغدت فيه الضفة الغربية وقطاع غزة رهينة تحت سيطرة أنظمة عربية، لم تحمل رغم خطاباتها العنترية مشروعا لتحرير الأراضي المقدسة. وحين أجبرت هذه الأنظمة على الانهماك بهذه القضية، أمسى موضوعها الرئيس هو استعادة الأراضي التي فقدتها في نكسة يونيو وليس تحرير فلسطين.

منذ السبعينيات من القرن الماضي انقسم الفلسطينيون إلى عدة أطراف، الأبرز بينهم استعد للدخول في مفاوضات مع الصهاينة، على قاعدة القبول بالممكن، وبما يتسق مع قرارات وليس مبادئ الشرعية الدولية، التي تمثلت في القرار 242. وطرف آخر عدمي، يرفض التسليم، لكنه لا يحمل مشروع تحرير قابلا للتنفيذ على أرض الواقع، وكان شعار الكفاح المسلح يتراجع عمليا لصالح الحلول السلمية.

هذه المقدمة، تضعنا أمام مسألة الدولة الفلسطينية، العنوان الذي تصدر نشرات الأخبار في الأسابيع القليلة المنصرمة، بعد زيارة رئيس السلطة السيد محمود عباس وإلقاء خطابه التاريخي في نيويورك، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومطالبته المجتمع الدولي بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبارها عضوا في الأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية الأخرى. مشروع أبو مازن رغم أنه يتسق مع مبادئ القانون الدولي، وحق الأمم في الحرية وتقرير المصير، لكنه يواجه بجدار كثيف من الرفض، من قبل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وقد أعلن المندوب الأميركي في مجلس الأمن الدولي أن بلاده ستستخدم حق النقض، في حالة عرض المشروع للتصويت.

وعلى صعيد الفلسطينيين يواجه المشروع معارضة حادة من قبل شرائح واسعة، وبشكل خاص من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة، تحت قيادة حركة حماس، وفي المنافي، وقد تجاوز تعدادهم السبعة ملايين نسمة، يقيمون في الشتات وفي المخيمات المنتشرة في الأردن وسورية ولبنان. فهؤلاء يرون أن الدولة ينبغي ألا تكون ثمرة التفريط في الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

وهكذا نجد مشروع الدولة يحاصر بين مطرقة الاحتلال وسندان المعارضة الفلسطينية.

بالنسبة للكيان الصهيوني لا يتوقف الأمر عند رفض المشروع ومطالبة السلطة بالعودة للمفاوضات كطريق وحيد للقبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1967؛ ولكنه يصل حد التهديد باجتياح إسرائيلي لمدن الضفة الغربية. ولتبدأ مرحلة جديدة من مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، كرد عملي من قبل الحكومة الإسرائيلية على مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

يواجه نتنياهو المطلب الفلسطيني الذي ينتقص كثيرا من حقوق الفلسطينيين بالرفض والتحدي، فيعلن عن بدء حكومته تنفيذ خطة لبناء 1100 وحدة استيطانية جديدة في مستعمرة جيلو في محيط القدس الشرقية. ونتنياهو بتحديه للقرار الفلسطيني لا يستبعد اندلاع انتفاضة فلسطينية لا يعلم أحد مداها، ومستوى العنف الذي سيصاحبها. وهو بخطوته هذه يمارس عملية تصدير للأزمة التي تعصف بحكومته، نتيجة تصاعد الاحتجاجات في فلسطين الداخل، والمتمثلة في المظاهرات الصاخبة من قبل "الإسرائيليين" الذين يطالبون بالعدالة الاجتماعية.

وكان نتنياهو قد شكل لجنة من الخبراء برئاسة البروفيسور مانويل تراختنبرغ لإعداد خطة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وقدمت توصياتها للحكومة، مطالبة بخفض الميزانية الأمنية بمبلغ 3 مليارات شيكل سنوياً بدءا من السنة القادمة. وقد رأى رئيس أركان الجيش "الإسرائيلي" الجنرال بني غانتس في تخفيض الميزانية العسكرية عودة بالجيش إلى أوضاع ما قبل حرب لبنان في يوليو 2006.

وتذهب بعض التحليلات إلى ما هو أبعد من ذلك، فتذكر احتمال إقدام نتنياهو على اتخاذ قرار بإقدام الكيان الصهيوني على توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية كهروب للأمام من الأزمة التي تواجهه، ولفرض واقع جديد، يجعل القضية الفلسطينية إلى ما لا نهاية، في أدنى اهتمامات المجتمع الدولي.

من غير المتوقع أن تسلم أي حكومة إسرائيلية يمينية بقيام دولة فلسطينية، حتى وإن كان استقلالها شكليا، يضمن بقاء الفلسطينيين رهائن لجيش الاحتلال الإسرائيلي. ويستدل كثير من المحللين على ذلك باستشهاد نتنياهو في خطبته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأقوال الحاخام العنصري "من لوبافيتش" الذي اشتهر بمعارضته الشديدة لانسحاب "إسرائيل" من الأراضي التي احتلتها، في مقابل سلام شامل. لقد قدم له الرئيس الأميركي باراك أوباما ولاءه الكامل، وليس هناك ما يجبره على التراجع عن موقفه الرافض للتسليم بالحقوق الفلسطينية المشروعة.

خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالأمم المتحدة جاء بعد أكثر من 35 عاما على خطاب الرئيس ياسر عرفات، الذي أعلن فيه من على نفس المنصة أنه جاء حاملا البندقية بيد والزيتون باليد الأخرى، مطالبا المجتمع الدولي بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ولم تشفع له البندقية ولا غصن الزيتون أو يقرباه من هدف التحرير. خطاب أبو مازن جاء حاملا غضن الزيتون فقط، وهو غصن تيبس من طول الانتظار، وجرد من أي قوة ومضمون، فقد هودت القدس جغرافيًّا وبدأ تهويدها ديموغرافيًّا، ولحقت بها الضفة أو تكاد، وحولت غزة إلى معتقل كبير، وتتسارع نوايا الترانسفير للوطن البديل، وتبقى المحاور كثيرة ومفتوحة للمناقشة عن الدولة المستقلة والمطرقة والسندان.