أكتب اليوم من نيويورك، التي ما زالت تعتبر نفسها عاصمة المال الأولى في العالم. وربما ظل ذلك صحيحاً لفترة من الزمن، قبل أن تأخذ القيادة منها إحدى العواصم المالية العريقة مثل لندن أو فرانكفورت، أو إحدى العواصم الناشئة الجديدة مثل بكين.
وتخيم على نيويورك اليوم روح من التشاؤم بسبب مستقبل اليورو الذي أصبح مصدر قلق، سواء بقي موحداً أو انفرط عقده. وكانت فكرة توحيد العملة قد بدأت بشكل علمي في عام 1961 على يد روبرت مندل، الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، الذي وضع نظريته المشهورة عن "المنطقة المثالية للعملة". وبناء على تلك النظرية، تبنت دول الاتحاد الأوروبي في عام 1992 اتفاقية ماسترخت التي أسست مشروع العملة الأوروبية الموحدة ووضعت شروطها وخطوطها الرئيسية.
وفي عام 1999، بدأ الحلم في التحقيق، حين تم تبنى اليورو كعملة محاسبية، ومع أن مندل نفسه كان معارضاً للطريقة التي تم فيها تبني اليورو، لم تستطع لجنة جائزة نوبل مقاومة إغراء ركوب الموجة وقررت منحه جائزة نوبل للاقتصاد عام 1999 مكافأة له على تلك النظرية.
وفي عام 2002، وسط تفاؤل عميق في أوروبا، بدأ الاستخدام الفعلي لليورو، يُدار من قبل مؤسسة جديدة أنشئت خصيصاً لذلك، هي "البنك المركزي الأوروبي" في فرانكفورت. وأذكر أنني كنت في فرانكفورت خلال الأسابيع الأولى من تبني اليورو، بدأت زيارتي في مقر البنك المركزي الأوروبي، الذي وجد المسؤولون فيه وقتاً لمناقشة مستقبل العملة الجديدة، وفوائدها، وأبدوا سعادة خاصة بأن دول مجلس التعاون كانت لتوها قد تبنت جدولاً زمنياً لعملتها الموحدة، وكان خبراء البنك الأوروبي أسخياء بنصائحهم حول كيف يجب أن يُدار مشروع العملة الخليجية الموحدة.
ومع بعض التذمر بسبب ارتفاع الأسعار، إلا أن الفرحة والاعتزاز كانا الشعورين السائدين في دول أوروبا الأخرى التي زرتُها وقتها. كان هناك اعتزاز بأن أوروبا عادت إلى قيادة التاريخ، نظراً إلى أنه هذه هي المرة الأولى التي تتعامل فيها أوروبا بعملة موحدة منذ أيام الدولة الرومانية.
ولكن قطاع المال والأعمال في الولايات المتحدة، خاصة مجتمع وول ستريت وبورصة نيويورك، ظل متشككاً منذ بدء تنفيذ المشروع. وكانت هناك عدة عوامل - سياسية واقتصادية وأكاديمية – لهذه الشكوك. فمن الناحية الأكاديمية، كان الوالد الروحي للعملة الموحدة، روبرت مندل، يثير التساؤلات عن مدى التزام اليورو بنظرية "المنطقة المثلى للعملة" التي كان مندل قد طرحها وحصل بها على جائزة نوبل. ومن الناحية الاقتصادية، رفضت بريطانيا، وبعض الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي، الدخول في اليورو لأنها ظنت أنه سيضعفها اقتصادياً. ومن الناحية السياسية، كانت أمريكا تتخوف من أن العملة الموحدة ستحول أوروبا إلى عملاق سياسي جديد ينافس عالمها الجديد الأحادي القطب، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
وقد نجح اليورو، خلال عمره القصير، في إيجاد أكبر منطقة تجارية في العالم، وربطها سياسياً كما ربطها اقتصادياً، واليورو اليوم هو العملة الرسمية لـ (17) دولة من دول الاتحاد الأوروبي، يبلغ تعداد سكانها (333) مليون نسمة، أكبرها اقتصادياً ألمانيا ثم فرنسا. ولكن ذلك لم يترجم إلى قوة سياسية موازية لقوة الولايات المتحدة. وظل الوضع كذلك حتى الآن، ولم يتحقق الحلم السياسي.
ولكن هل ما زال اليورو مكسباً اقتصاديا؟ يعتقد الكثيرون اليوم، خاصة في نيويورك، أن حلم اليورو الاقتصادي قد انتكس وأصبح كابوساً مخيفاً، ليس لأوروبا وحدها بل لأسواق أمريكا المالية، وبقية أسواق العالم.
وتخيم على وول ستريت روح سوداوية هذه الأيام، يغذي تشاؤمها سوق العقار الأمريكي، وأزمة الميزانية الاتحادية، والديون السيادية في أمريكا وأوروبا. وأصبح معظم الخبراء يعتقد بأن موجة جديدة من الكساد، أو ما يُسمى بالكساد المزدوج، قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى.
وكما نعرف فإن سبب القلق الرئيسي على مستقبل اليورو هو وضع اليونان والاقتصادات الأخرى الضعيفة، مثل البرتغال وإيرلندا، وإلى حد ما إسبانيا وإيطاليا.
وقد كتب الكثيرون عن مشاكل اليونان، كما كتبتُ في هذه الصحيفة عدة مرات على مدى العامين الماضيين. ولذلك فإن المشكلة الرئيسية معروفة. فما الذي يسبب القلق الآن؟
لقد أصبح احتمال إعلان اليونان إفلاسها احتمالاً أكبر من أي وقت مضى. ولكن اقتصاد اليونان اقتصاد صغير ومن المفروض ألا يمثل مشكلة لا تمكن معالجتها، فلماذا تقلق هذه الأسواق المالية الكبرى كل هذا القلق؟
السبب الرئيسي للقلق هو أنه لا أحد يعرف على وجه التحديد ماذا يحدث لو أعلن أحد أعضاء اليورو إفلاسه، ولا يوجد ضمن قواعد الوحدة النقدية الأوروبية أي آلية واضحة للتعامل مع ذلك. فهناك ما يُسمّى بشرط "عدم الإنقاذ"، أي أنه لا يجوز إنقاذ أي عضو قارب على الإفلاس، ولكن هذا الشرط لم يعمل به، وما زالت دول الاتحاد الأوروبي تضع برنامجاً تلو الآخر لإنقاذ اليونان، وغيرها، من الإفلاس.
والخوف من المجهول هو أكثر ما يسبب عدم الاستقرار في الأسواق المالية، أشد من الأزمة وأشد من الإفلاس. ويشمل عدم الاستقرار أسواق الائتمان والأسهم على حد سواء، في العالم أجمع تقريباً.
وهناك تخوف آخر وهو أن إفلاس اليونان، أو خروجها من منطقة اليورو، قد ينشر عدوى غير محمودة، وتتساءل أسواق المال، مثلاً، ماذا لو أن العدوى أصابت إيطاليا، التي تمثل نحو 20% من اقتصاد اليورو؟ ولو أرادت الدول الغنية في أوروبا (ألمانيا تحديداً) لليونان والدول الضعيفة الأخرى أن تظل في منطقة اليورو، فهل تستطيع إنقاذها ماليا دون أن تضر بمستقبل مواطنيها أنفسهم؟ وبالمستقبل السياسي للأحزاب الحاكمة فيها؟ فهل نفهم الآن لماذا يعاني العالم من كابوس اليورو؟