من الأقوال المشهورة للإمام الفقيه أحمد بن حنبل: "نحن قوم مساكين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا".
يا ترى إلى أي حد نحن نقترب من هذا القول الموجز في شرح دائرة حياتنا اليومية والعمرية؟ سؤال الاقتراب من إجابته لا يخلو من الصراحة الموجعة كثيرا حين نقارن بين منجزات العالم العربي المسلم، وبين إنجازات العالم الغربي، فالبون يكاد يكون شاسعا، فمعظم الابتكارات والاختراعات التي نتنعم بها اليوم من وسائل اتصال سريعة وأجهزة وما إلى ذلك تحمل توقيع اسم من الغرب، ودعونا بصدق نتخلص من الشماعة التي تقول إن كل هذه الابتكارات كانت الحضارة الإسلامية تمتلك جذورها الأولى في القرنين الرابع والخامس الهجريين! ولو افترضنا ذلك فماذا عن اليوم والأمس؟! لماذا الثقافة العربية اليوم لم تنجز شيئا يذكرأمام ما أنتجته الثقافة الغربية وبقينا مستهلكين؟! السؤال يُعيدنا إلى قول الإمام ابن حنبل، والدائرة التي حصرنا أنفسنا بها هي سبب بالغ الأهمية بجعلنا كسالى ومتكلين على غيرنا، فالإنجاز والابتكار نتاجان لطريقة التعامل مع الحياة الدنيا التي نعيشها، وحتما طريقة التفكيرفي الحياة تختلف من شخص لآخر، تبعا للطريقة التي يعيشها وتفرض عليه كيفية التواصل مع الحياة التي تنبض داخل جسده أولا ليشعر بالوجود المحيط به ثانيا، فالحياة تبدأ من داخلنا وليس العكس أبدا، والميت تنتهي حياته، ولكن يبقى المحيط الخارجي حيا.
وبصراحة، الثقافة الأُخروية التي طغت كثيرا في الخطاب الشعبي الذي عزز تهميش الدنيا والزهد في الحياة طلبا للآخرة بالتخويف من الموت، ثم ابتكرت الكثير من القصص للتخويف من الحياة، كتلك الروايات المختلقة عن الموتى وعذابهم مما يرويه بعض مغسلي الموتى كعظة وعبرة كما يزعمون، أو الذين زعموا أنهم مسخوا عذابا لهم ممن نرى صورهم عبر الإنترنت، وهي صور مفبركة طبعا، لتجعل من الحياة شبحا يركض خلفنا، وأن علينا التفكير بالموت أكثر من الحياة ذاتها، وكأن العمل والتعامل والإنجاز ليس عبادة أيضا.
هذا الخطاب سبب مهم من أسباب التكاسل والتواكل في الإنجاز، وعدم دفع روح الابتكار، إذ كيف يمكن أن يبتكر أحد أو يخترع وهو يفكر بالموت غدا؟ ثم لن يكون هناك إنجاز وابتكار ما لم يكن أساسه طلبا للحياة وزينة الدنيا، بما في ذلك من مال وشهرة ومكانة، ولا أعلم لماذا ترسخ في الثقافة الشعبية العربية الإسلامية أن الدنيا دار فناء فقط وليست أيضا دار إنجاز وتعمير، صحيح أن الآخرة حق من الله تعالى حاصلة وموعدها لا يعلمه إلا الله، ولكن الدنيا التي وصفها الله في كتابه الكريم أنها لهو ومتاع وزينة هي ذاتها التي طالب فيها خليفته الإنسان بتعميرها منذ الأزل، والتمتع بزينتها هو شكر له، وشكر الله عبادة أيضا، والحياة الدنيا جسر ممدود للآخرة، وإن أدرت ظهرك للحياة فأنت أيضا تدير ظهرك للآخرة، ولكن الخطاب التقليدي أبى إلا أن يجعل من هذه الأمور مسائل قد تغري الإنسان بالفساد، وبالتالي يخسر آخرته، ولهذا يطالبه بالزهد بينما يتنعم بعض أصحاب هذا الخطاب بالشهرة عبر برامجهم الإعلامية، وبالفلل الفاخرة، فيما تحولنا نحن لقوم مساكين، وأضيف "كسالى" نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.