احتفى الكثيرون بخطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله- في افتتاح أعمال السنة الثالثة لمجلس الشورى في دورته الخامسة لما تضمنه من التأكيد على المبادئ الأصيلة التي تعبر عن ثقافة وقيم هذا المجتمع دون تعطيل مسيرة التقدم والتطور وفق خطة "التحديث المتوازن والمتفق مع قيمنا الإسلامية التي تصان بها الحقوق". وحظي قرار فتح الباب واسعا أمام المرأة للمشاركة في الحياة العامة من خلال مجلس الشورى والترشح والتصويت في انتخابات المجالس البلدية اهتماما كبيرا في وسائل الإعلام المحلية والخارجية لأنه يعالج قضية حقوقية، اجتماعية، دينية تمس نصف المجتمع بل المجتمع كله. واعتبره الكثيرون "منعطفاً" تاريخيا و"نقلة" جوهرية في مسيرة تمكين المرأة والدفع بها للدخول إلى كل الحقول وتشجيعها وحمايتها من المعارضين لهذا التوجه كما رأوا فيه إنصافا وتقديرا ومكافأة للمرأة على صبرها، فترة طويلة وهي تطالب بهذا الحق الطبيعي والمنطقي وإصرارها على الحصول عليه بعد أن قررت الدولة – منذ عشرات السنين – أن تمكنها من التعليم على جميع المستويات، في الداخل والخارج لها.

ولا شك في أن هذا القرار أنهى جدلاً طويلا أهدر في سبيله زمن ما كان ليهدر لو كان مجردا من أهداف "صراع التيارات" الذي أحال قضية تمكين المرأة من مسألة تنموية طبيعية، تستجيب لدواعي تطور الحياة ومقتضياتها إلى "وسيلة" استخدمها المختلفون للدفاع عن "مواقعهم" والعمل على "كسب" مساحة في مواقع التأثير المجتمعي. إذ كانت المرأة- وقضاياها في عمومها - ومشاركتها في الحياة العامة واحترام إنسانيتها والاعتراف باستقلال إرادتها والثقة في قدراتها والدعوة إلى صيانتها وحمايتها من "أعدائها"، من القضايا التي استخدمها المختلفون "قفازات" لتبادل اللكمات وتوجيه الاتهامات. واليوم يأتي القرار الملكي، بديباجته، لينهي فصلا من هذا "العراك" الذي يعبر عن تدافع وجهات النظر المختلفة حول قضايا عديدة في مسيرة نمو المجتمع وتعقد العلاقات بين أفراده ومجموعاته. هذا "السيل" العاطفي الذي استقبلت به شريحة كبيرة من النساء قرارات الملك لا شك يعبر عن قطاع كبير من النساء الوطنيات المسلمات، ومن سوء "الظن" أن يرى البعض أن هذه الشريحة كلها تتحين الفرص للانفلات من الدين وضوابطه، بل الإنصاف يقتضي أن ننظر إلى المرحبات والمؤيدين أنهم رأوا في القرارات تصحيحاً لأوضاع وأخطاء ما كانت لتكون لو لم تجعل المرأة "ساحة" معركة يصفي فيها الخصوم الحسابات مع مخالفيهم.

وإذا كان التيار النسوي وأنصار مشاركة المرأة في الحياة العامة يرون في القرار انتصاراً "لمشروعهم" الذي نافحوا من أجله وناضلوا للدفع به إلى الأمام فإن ديباجة القرار التي تقول: "ولأنا نرفض تهميش المراة في المجتمع السعودي في كل المجالات وفق ضوابط الشرع، وبعد التشاور مع كثير من علمائنا في هيئة كبار العلماء وآخرين من خارجها" لتؤكد إيمان القيادة بمبدأ تعدد الرأي واختلاف وجهات النظر في إطار البحث عن الحق أينما كان وأينما وجد. هذا التأكيد يعد "مكسبا" يضاف إلى رصيد مشروع الحوار الوطني الذي يهدف إلى استيعاب ثراء التعدد الوطني من أجل السلم الاجتماعي. وهو يستحق أن يحظى بالاهتمام والتحليل والتأمل والتعليق بالقدر الذي يتناسب مع أهميته لأنه "يؤسس" لمنهج ستكون له آثاره العميقة في حياتنا ورؤيتنا وأحكامنا على الأشياء.. فالإشارة إلى التشاور مع "أعضاء في هيئة كبار العلماء وآخرين خارجها لها دلالاتها التي منها الإيمان بحقيقة تعدد وجهات النظر في المسائل الفكرية والفقهية وأصالتها في منهج معالجة القضايا التي تمس نشاط وتطور المجتمع. هذه "التعددية" التي اعتمدها الملك عبدالله في قرار إشراك المرأة في الحياة العامة "تريح" المجتمع من جدل ومماحكات و"مرارات" الاتهامات المتبادلة بين المختلفين، وهي اتهامات تصل، في بعض الأحيان، حد التجريح والتخوين والعمالة، فالبعض اتخذ واقع المرأة وما تعانيه من مصاعب إدارية ومظالم تنظيمية وقيود اجتماعية، حجة على ظلم المجتمع لها كإنسان.. وكانت المرأة إحدى "الإشكاليات" التي اصطرعت حولها التيارات المختلفة، كل يدعي حمايتها ونصرتها، "فالتقدميون" يرون في مناصرتها "وسيلة" فاعلة ضد خصومهم تكشف مواقعهم وتزهد الناس في خطابهم.. وأولئك يرون في الدفاع عن مكانة المرأة الموروثة وصيانة عفتها وحمايتها من أمراض التفسخ والتبرج "وسيلة" تعضد موقفهم ضد دعاة "التغريب".

وتأتي قرارات الملك عبدالله لتجعل "حداً" لهذا الجدل وتسلب المتخاصمين "وسيلة" طالما استخدمها كل طرف.. وأعتقد – على صعيد شخصي – أن الذين كانوا يقفون وراء تأخير هذا القرار وأمثاله يخسرون – يوماً بعد يوم – مساحة من مشاعر الناس وعقولهم وينحسر عنهم التأثير الشعبي.. وأخشى القول إنهم "يستدرجون" إلى معارك وساحات ليست في صالحهم ولا بتوقيتهم.

ديباجة القرار تعطي الدلالات والإشارات وتؤكد احترام القيادة للعلماء مع عدم الارتهان لأي تيار أو مدرسة معينة بل رؤيتها مصلحة الوطن والحفاظ على قيم شعبه ومسؤوليتها وموقعها يجعلها منفتحة على الجميع.