( صَاحِبِي ..لاَ تَمَلَّ الغِنَاءَ فَمَا دُمْتَ تَنْهَلُ صَفْوَ اليَنَابِيْعِ شُقَّ بِنَعْلَيْكَ مَاءَ البِرَكْ).

هتف بها ذات أثير، صبي يشكو إعاقة جسدية، عبر برنامج إذاعي، معبرا عن لا محدودية لأملٍ يتخلق داخله كما خبز في تنور. أذكر يومها – قبل أكثر من عقد من الزمان – أن أبا يوسف، امتشق فرحه، مبديا حبورا لا حد له، أن وجد كلماته تمنح الأمل للطامحين.

في الثمانينيات – الحقبة التي تتغنى بها الحركة الإبداعية في المملكة – ولد جيل من الكتاب والشعراء، كانوا محظوظين أنهم ولدوا ونموا بين أروقتها وفي حدقاتها، دون أن تبتل ثيابهم بالحريق الذي اندلع في ثناياها وكان في جله زعيقا وعبثا لا صلة له بالمعرفة.

كان أبو يوسف واحدا من قلة منحوا أولئك الشباب الحلم والأمل معا بلا وصاية أو تعال. كانوا يرددون مقاطع من شعره حتى إن لم يكونوا شعراء.

بل كاد يكون الوحيد من مجايليه ممن حفظت قصائدهم ،ومقاطع كثيرة، مازالت قيد الحفظ خاصة من نتاجه الأخير الضاج بروحانيات، تحيل إلى نضج متصل بات يشكل وعي الثبيتي من جهة، ويؤكد من زاوية ما على أصالة المخزون التراثي في وعي الشاعر، ولا يستبعد آخرون تأثير سكنى الثبيتي في العقد الأخير على مقربة من جبل النور، تحت غار حراء، في لاوعيه.

يقول الثبيتي في (الرقية المكية) آخر ما كتب قبل وقت قصير من إصابته القلبية:

( وغسلت وجهي في

بياض حيائها

وكتبت شعري قرب

مسجد جنها

وتلوت وردي عند غار حرائها).

بينما يتلو أوراده في شعاب مكة وبطحائها، كانت الأجيال تحفظ قصائده عن ظهر قلب، وترددها متخللة أحاديثها، وقفشاتها، مانحة الوجود إشراقا، مثلما منح ذلك المقطع الأمل والتحدي للشاب المعاق.

فنان عميق، تأثيره طاغ في الشعراء الذين تخلقوا في فترة الثمانينيات، فبقوا مقلدين، مكبلين بعنفوان شعريته، وتلك جناية لم يتقصدها، هذا الشاعر المليء، بسلسلة الينابيع وضحكاتها.

الحس الوطني العالي لديه، ناهيك عن الحس الإنساني. يمتزجان فيه بلا صلف، فلا تسمع منه تلك الشطحات الشوفينية التي تنفلت من بعض الشعراء، أو تلك المزايدات العروبية، وتلك النبرة المناطقية/العشائرية البغيضة التي تحيل إلى أزمنة البسوس. فكم ارتطمنا بنزعات إقليمية ضيقة تنفلت من اللاوعي من لدن شعراء كانوا يوهموننا بالإنساني، ولكن الأيام تكشفت عن وعي زائف يلتف حول أرواحهم، ويبقيهم دائما في المنطقة البدائية من الوجود البشري والحياة المدنية، حيث الأفق الضيق، والانغلاق على الذات حد التورم المؤسي، والانتهازية والضلال والعته النفسي. وهي أشياء نجا منها محمد الثبيتي بوعي حاد، فكان بداهة أن يتردد شعره أناشيد للصحراء التي تتعاهد حبات رملها على انتزاع الشروق من بطن الحجر.دون أن يكون متجرعا(حزن الغداة وصبر العشي)، بل حاديا:

( يا وارد الماء علّ المطايا

وصب لنا وطنا في عيون الصبايا).

ثمة أفراد عابرون للزمن والتاريخ والأمكنة يتحولون إلي ظواهر مثل شروق الشمس، محمد بن عواض الثبيتي المعلم القديم الذي مخر عباب التدريس مطالع السبعينيات الميلادية من القرن الماضي إثر تخرجه في معهد المعلمين الثانوي في مكة المكرمة، أحد هؤلاء . رحمه الله رحمة واسعة.