أنا حصان عصيٌّ لا يطوعه بوح العناقيد أو عطر الهنيهات..!العلامة الفارقة في موقع محمد الثبيتي من القصيدة السعودية الحديثة هي جلوس الشاعر نفسه على كرسيين اثنين في وقت واحد، من دون أن يسقط بينهما، كما يعبّر المثل الفرنسي. والفقرة الزمنية التي أدّى فيها الثبيتي دوره في المشهد فرضت أن يكون شاعراً قادماً من الجذور، محملاً بهاجس حقيقي نحو امتداد التجربة الشعرية الحديثة. وبمساندة الموهبة والجدية تمكن محمد الثبيتي من أن يكون محمد الثبيتي، نفسه، دون أن يتورط في نزق يسلبه ملامحه. وهو في أعماله الثلاثة الأساسية "تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً" و"التضاريس" و"سيد البيد" يقدم نفسه بدوياً رائعاً يغالب في المدينة شوق الرمال العالقة في عباءاته، وكأنه يريد أن يمد بجذوره إلى قريته الأرملة ـ حسب إيحاءاته ـ أو يعلن عن تزاوج متفرد بين التجربة الوجدانية والتجربة الفنية، لدى شاعر يتطلع إلى أفق جديد له خصوصيته..!

وهكذا أشير إليه على أنه شاعرٌ مولود من رحم القصيدة التقليدية، وأن تجربته الشعرية الحديثة ليست إلا تطوراً نوعياً حققه بتوازن واعٍ. وفي السياق التاريخي للقصيدة السعودية المتهمة بـ"الحداثة"؛ فإن موقع معلن وواضح بين جيل الهاربين من عمودية القصيدة ومن رومانسية الدلالة. وسمة الثبيتي الأهم هي أنه عاش في قرية ريفية، لكنه تمسك بوفائه للرمال، وافتتن بالبيادر.

في "تهجيت حلماً"، تحديداً، ثمة تزاوج بينه وبين المباشرة منطق رومانسي، على صعيد الشكل والمضمون.. اللغة والصورة.. التعبير والعاطفة.. الموسيقى والتشكيل الجمالي..

يبدو هذا المنطق أكثر إلحاحاً في قصيدة "صفحة من أوراق بدوي" التي تقدم دلالات متقابلة في تعابير ذلك البدوي الرافض أضواء المدينة، متعلقاً ببقايا رمال الصحراء.. الدلالات المتقابلة تجسد صراع البدوي والمدينة، وتفرض جماليات الحياة الشحيحة في الصحراء على الجماليات الأخرى إمعاناً في البداوة:

هذا بعيري على الأبواب منتصبٌ

لم تعش عينيه أضواء المطاراتِ

وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي

تهدهد العشق في مرعى شويهاتي

أتيت أركض والصحراء تتبعني

وأحرف الرمل تجري بين خطواتي

يا أنت لو تسكبين البدر في كبدي

أو تشعلين دماء البحر في ذاتي

فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي

ولا عبير الخزامى من عباءاتي

هذا الرفض لا يحدد المدينة.

إنه يلفظ الطبيعة بكل جمالياتها، ليستبقي، فقط، الصحراء وواحاتها العطشى وإبلها وشويهاتها.

والقيمة، هنا، تكمن في التحدي! فالبدوي يرفض كل أشكال الحضارة؛ صارخاً:

أنا حصان عصيٌّ لا يطوعه

بوح العناقيد أو عطر الهنيهات

دلالة المفردة البدوية تمتدُّ بتداعياتها، هنا، من «المفازة» إلى «المدينة»، والكلمة الأخيرة دلالة مقابلة لـ«صمت المسافات» و«الأمد السرمدي» و «الامتطاء» و «وجه الفراغ». وكلها مفردات إيحائية تتشيأ في السياق اللغوي بواسطة توظيف الفعل المضارع «تمتد.. يعبر.. يفجأ.. يمتطي.. يتألق.. تنشق» في تجسيد الحقيقة الخاصة/ الرؤية.

وتقنياً، يحسب للثبيتي في نصه (الذي سبقت كتابته نصوصاً قبله وهذا مكمن غرابة) أنه تجاوز مرحلة التعامل مع الدلالة البدوية باعتبارها «كلمة» إلى مرحلة التعامل معها بوصفها امتداداً رأسياً للجملة الشعرية. وفي الصورة السابقة نبصر بالجملة وهي تقتات من داخلها بجزئياتها للانتهاء إلى خلق حساسية ممتنعة عن المكاشفة.

ولأن المضمون الشعري هو المصدر الأهم، في هذا النص، فإن محمد الثبيتي لم يحتفل بمفردته الحنينية ذات الاحتفال بالصورة الشعرية، فهو افتتح النص قائلاً:

في انتظار المساء الخرافي

ترسو مراكبنا البابلية

خفاقة الأشرعه

وريح محملة بالضجيج

تدير نجوم المجرة حول

ضفاف الخليج

وتعبث بالصوت والماء والأمتعه

ولا شيء، في هذا المقطع، يشير إلى البداوة أو يومئ إلى لغة الصحراء، غير كلمة «ريح» الخديجة في دلالتها البدوية. إن الصورة، هنا، تشكلت بفعلٍ مثقل بسوداوية المضمون الذي لم يكن يحتاج إلا إلى أي صورة قاتمة تفتض بكارة المشهد. بصرف النظر عن أي عبارة ذات خصوصية في مضمونها البيئي.

وفي "التضاريس" يعيد قراءة المشهد الجمالي في لغة البدوي، ويستعير من مفرداتها المرهفة ذلك الإحساس البدائي، ويوظفه توظيفاً فنياً بارعاً في خلق حالة جمالية لها ما يبررها: تشكيلاً ووجداناً. و يحاول الشاعر الثبيتي ـ بإحساسه الفني الخاص ـ الأخذ بمفردات اللغة الشعرية الغنائية إلى أفق رمزي من الممكن مواجهته مواجهة والتعامل مع علاقاته.

ومن (ترتيلة البدء) بوصفها القصيدة التي تفتض بكارة المجموعة المتمردة؛ تتصارخ المفردات البدوية الحنينية في مدار الصورة الرمزية:

جئت عرافاً لهذا الرمل

أستقصي احتمالات السواد

جئت أبتاع أساطيرَ

ووقتاً ورماد

ولكن سرعان ما ينعطف المشهد اللغوي المتكيء على مداليل بيئة الصحراء (عراف/ الرمل/ أستقصي/ رماد) إلى مشهد يفيد من رصيد لغوي مختلف؛ فيتحول الإحساس اللفظي البدوي إلى رؤية جمالية بإحساسها لا بمفرداتها الصريحة:

بين عينيّ وبين السبت طقس ومدينة

خدر ينساب من ثدي السفينة

هذه أولى القراءات وهذا ورق التين يبوح

قل هو الرعد يعري جسد الموت

ويستثني تضاريس الخصوبه

قل: هي النار العجيبه

تستوي خلف المدار الحر تنيناً جميلاً

وبكاره

نخلة حبلى،

مخاضاً للحجاره.

المشهد الجمالي يعتمد على المفردة الثقافية (القادمة من ثقافة الشاعر وليس ذاكرته). وهذا التوظيف هو الذي يضع لغة محمد الثبيتي في مجموعته (التضاريس) في موقع التناظر مع لغته في مجموعته الأولى (تهجيت حلماً.. تهجيت وهماً). وقد يصب ذلك في صالح النظرة إلى شخصية محمد الثبيتي الفنية المتماسكة بخصائصها الأسلوبية ومضامينها المتمردة.

غير أنها ـ خاصة إذا ما ربطت بسياق قصيدة التفعيلة ـ لا تصب في صالحه، فالتناظر واضح حد التشابه، ومهما كانت المفردة البدوية ذات خصوصية عند محمد الثبيتي، كمفردة صريحة وكإيحاء، فإن الإشكالية الأكثر لذة ـ وخطورة ـ هي أن محمد الثبيتي هو محمد الثبيتي في شعره.