اعتماد مفهوم تسويق المدن بدلاً من تسويق الدولة كفيل بمساعدة السعودية على تخطي الصعوبات التسويقية التي تواجهها. هذا لا يعني أن مفهوم تسويق الدولة قد تجاوزه الزمن ولكن الأوجه المتعددة التي يمكن تسويق السعودية من خلالها تستلزم الفصل بينها في مشروعات تسويقية مستقلة، مدينة مدينة، بحيث يمكن تجسيد الصورة التسويقية لإحداها دون الإخلال بالصورة التسويقية لأخرى. من الصعوبة بمكان تسويق السعودية عالمياً كمركز للصناعات البتروكيماوية وكوجهة سياحية للاستجمام في نفس الرسالة التسويقية. الصورة الذهنية للمراكز الصناعية المرتبطة بالضوضاء والتلوث (حتى لو لم يمكن ذلك صحيحاً) تتداخل بشكل سلبي مع صورة الوجهة السياحية النقيّة الهادئة، ويؤدي هذا التداخل إلى تقديم صورتين مشوشتين لا تصلح أي منهما لتحقيق المأرب التسويقي ولا خدمة الهدف الاستثماري. الخيار الذي يمنحنا مرونة تسويقية هنا هو تسويق الجبيل وينبع والظهران وثول بشكل مستقل عن أبها والطائف والباحة والنماص.

وفي الحقيقة، أن في كل مدينة من هذه المدن جهات مسؤولة تولت مشاريع تسويقية سابقة وما زالت تفعل ذلك بشكل مستمر. إلا أن هذه الجهود ما زالت في خانة الدعاية الموسميّة التي لا تهدف لأكثر من تحقيق ربح سياحيّ مؤقت أو جذب استثمار صناعيّ محدود أو تحقيق أجندة تنموية سريعة، ولم تتجاوز ذلك إلى مرحلة صناعة صورة دائمة للمدينة المعنية تغنيها - بعد اكتمالها - عن تسويق نفسها دعائياً.

ليست نيويورك بحاجة لتذكير المستهدفين بكونها مركز المال والأعمال العالميّ، كذلك لم تعد شنغهاي - مؤخراً - بحاجة لأن تقدم نفسها بوصفها بوابة الاستيراد والتصدير بعد أن أصبح ذلك مسلمة تجارية في هذه المرحلة.

في المقابل، فإن دعايات السياحة التركية تملأ اللوحات الإعلانية في أوروبا وأمريكا والصين والخليج مثلما تملأ دعايات استقطاب الاستثمارات إلى جنوب أفريقيا المجلات الاقتصادية المتخصصة، كل هذا لأن صورة (اسطنبول) كوجهة سياحية و(جوهانسبيرج) كمركز أعمال لم ترسخ في ذهن العالم بعد، ولذلك تجد نفسها مضطرة لصناعة هذه الصورة ضمن استراتيجية تسويقية طويلة المدى. هذا ما لم تعد باريس بحاجة إليه لجذب 27 مليون سائح يفدون إليها سنوياً دون دعاية (مباشرة)، ولا لندن التي تضيف إلى قائمة الاستثمارات العالمية فيها عشرين مليار دولار إضافية كل سنة بسهولة نسبية.

نحن بحاجة إذاً إلى استراتيجية تسويق تمكننا من أن نذكر الجبيل أو ينبع في محفل عالمي دون أن نضطر إلى أن نشرح لأحدهم ما تعنيه المدينتان لصناعة البتروكيماويات العالمية، ونذكر أبها أو الباحة، كوجهتين سياحيتين عالميتين دون أن نضطر لعرض صور لسهول خضراء أو جبال شاهقة. هذا حلمٌ تسويقي لكل مسوّق في العالم، وهو أن يتمكن من تحويل اسم منتجه أو مدينته من مجرد (اسم) إلى (ملف) متكامل يصنع انطباعات ذهنية فورية لدى المستمع.

ومنذ انتشار مفهوم تسويق المدن لا يكاد تمرّ عدة سنوات دون أن نضيف مدينة جديدة إلى قائمة المدن التي نجحت في صناعة صورة متكاملة لها لا يكاد يختلف عليها اثنان سواءً كان نطاق التسويق عالمياً مثل فانكوفر الكندية وملبورن الأسترالية، أو إقليمياً، إذا كانت المدينتان تتنافسان في منطقة معينة مثل دبي والدوحة في الشرق الأوسط، أو محلياً إذا كانت المدينتان تتنافسان في نفس الدولة مثل ساو باولو و ريو دي جانيرو البرازيليتين.

كل هذه الشواهد من المدن، سواءً تلك التي حافظت على مكانتها التنافسية أو دخلت مضمار السباق مؤخراً، تدل على أن نجاح هذه الإستراتيجية ممكن عند تطبيق شروطه.

لم يعد الأمر لغزاً، بل خطة عمل مجرّبة ذات معايير واضحة. ومدن السعودية لا تملك مقومات ذلك فحسب، بل إن بعضها يملك نية جادة لتجاوز الحدود المحلية. فمدينة الملك عبدالله الاقتصادية لا تبدو مشروعاً عادياً يهدف إلى دفع عجلة التنمية فحسب، بل محاولة جادة للبدء من حيث انتهى الآخرون، وتقديم المدينة كمركز أعمال حديث ينافس مراكز الأعمال في المنطقة مثل دبي وأبوظبي والدوحة واسطنبول، وهي منافسة مرشحة للنمو لتشمل دائرة أوسع من مراكز الأعمال كهونغ كونغ وكوالالمبور وسنغافورة ونيودلهي وغيرها.

يبدو استشراف ذلك المستقبل صعباً، ولكن إطلالة صغيرة على ماضي تلك المدن المذكورة قبل عقد أو عقدين من الزمن تمنحنا فرصة لاستشعار المقومات الهائلة التي تملكها مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في مرحلتها الحالية من بنية تحتية واستثمار معرفي وموارد رخيصة وموقع جغرافي وحوافز ضريبية وغير ذلك. يبقى عامل هام قبل البدء في تسويق المدن بشكل مستقل وهو الاستقلالية الاقتصادية لكل مدينة. ولعل المقالة القادمة تناقش ذلك بتوسع.