يقول جون هولت في كتابه (كيف يتعلم الأطفال؟): "عندما يذهب الأطفال إلى المدرسة يغنون كثيرا، إلا أنهم يغنون الأغاني نفسها التي يغنيها المُعلم ويعلمهم إياها. والهدف ـ للأسف ـ: أن يغنوا بشكل صحيح وليس أن يخرجوا بشيء جديد!"

تلك المقدمة تعود بنا إلى نتاج فكرة وميثاق واستراتيجيات قصة المدرسة الأولى (لريجيو إيميليا) في إيطاليا، والتي تستقبل الأطفال من سن 3 أشهر إلى 3 سنوات، بينما تستقبل المدارس الابتدائية من سن 3 سنوات إلى 6 سنوات، أما مواردها ودعمها فإن 12% من موازنة مقاطعة روجيو إيميليا تنفق على هذه المدارس، أي أنها تنفق على تعليم الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 3 أشهر و6 سنوات أكثر من أي مقاطعة أخرى في إيطاليا.

وفي العلاقات التي تبنيها مدارس روجيه إيميليا بين الأطفال والمدرسين يحتاج المعلمون أن يتمكنوا من التواصل مع (محاولات) الأطفال في تكوين المعرفة (بأية) طريقة يستخدمونها، أو في التعبير عنها أي كما يراها الأطفال تماما، وأن يتفاعلوا مع ما ينتاب الأطفال فكريا وشعوريا، فييسر المعلم العملية التعليمية بتهيئة البيئة التعليمية الخصبة بتقييم كيف يستطيع الطفل التعلم فيها دون ضغط، أو قولبة، أو شراء لسلوك الطلاب بالوعد بالمكافآت؟ كما يكون المعلم لديه مخزون معرفي وعلمي على ما يستطيع الأطفال القيام به، بل يصل أن يتساوى معهم في أن يكون متعلما ومكتشفا مثلهم.

ميزة أخرى لمدارس روجيه إيميليا من حيث تصميمها وديكورها الداخلي، فمثلا تجد أن جميع الأعمال والمشاريع في المدرسة من صنع الأطفال فقط، وليست (لخطاطين) بلوحات (تغرير) وعبث مشاريع ذيلت بعمل الطالب وإشراف الأستاذ! أما المساحات التعليمية فليست غرف تدريس عادية (كعلب الساردين) التي اعتدنا عليها، بل مساحات أشبه بمعامل وورش عمل (Workshop) ينتظم فيها ما لا يزيد على 24 طفلا، ويخصص لكل مجموعة مدرسان وفنان واحد، ويعمل الأطفال في المدرسة على مشاريع جماعية مشتركة باهتمام وانغماس في عملهم.

لديهم في المدرسة مساحات مفتوحة واسعة يتحرك الأطفال فيها، حيث تُبنى مدارس (ريجيو إيميليا) بشكل يسمح للطفل بأن ينتقل وبشكل دائري من مساحة إلى أخرى، أما جدران المدرسة فهي ألوان فاتحة جدا تسمح بأن يكون الأطفال أنفسهم وملابسهم جاذبة أكثر من جدران المدرسة!

في تلك المدارس الأطفال يبنون معرفتهم بأنفسهم، والمعرفة لا يتم توصيلها أو إرسالها لهم، ولا يتم إملاء ما يفكرون به من قبل المعلم، بل إنهم يكدون ويناضلون من أجل فهم العالم وفهم كيف يرتبطون به، وهم يفعلون هذا بشكل جماعي، إنهم يصنعون إنسانيتهم بأنفسهم من خلال بناء أنفسهم، كما قال (لوريس مالاغوزي) القائد الروحي لمدارس روجيه إيميليا، والذي يتحدث عن دعم الأهالي والمقاطعة للمشروع: "لا أستطيع تخيل كيف استطاعوا أن ينظموا ويجندوا كل هذه الموارد في الماضي قبل تأسيس المركز، أما اليوم، فإنهم يحصلون على دعم دولي لمشاريع ونشاطات مركزهم، كما أن هناك مراكز مشابهة في عدد من الدول تحاول التعلم من تجربتهم. أعلم أن الكثير من هذه المدارس توجد في ثقافات وظروف مختلفة عن تلك التي وجدت فيها، ولكن يوجد بها الكثير مما نستطيع أن نتعلمه من اكتشافات الأطفال وإبداعاتهم".

وفي عام 1991 أوردت مجلة نيوزويك تقريرا يفيد بأن المدارس الأعضاء في مركز ريجيو إميليا هي أفضل المدارس لتعليم الأطفال في العالم، كما حازت تلك المدارس على جوائز عالمية عدة لتميزها، وقد زارها العديد من الباحثين والمهتمين من مختلف أنحاء العالم لدراسة نهجهم وطريقتهم في التعلم.

قد نغبط تلك المدارس وأطفالها، ونتمنى أن يكون لأطفالنا السعوديين نصيب مثلهم من (الحياة وتكوين الإنسان) مع إدراكي المتشائم أن مدارس ما قبل الابتدائية أو حضانات الأطفال أو ما نسميه برياض الأطفال والتمهيدي لدى كثير من مسؤولي وزارة التربية والتعليم والمجتمع ليست بتلك الأهمية، وتعيش تغييبا لدورها العظيم جدا في نشء الأجيال وتأهيلهم الفكري والنفسي، أما البعض الآخر فيعتقد أنها ترف تربوي يخص ذوي الطبقة المخملية فقط!

خالد سيف الدين عاشور الباحث التربوي والمدرب في إدارة تعليم جدة والمهتم بمدارس ريجيو إميليا، بعد أن بحث عنها وقرأ عدة كتب في فلسفتها، وزار نماذجها في إيطاليا، ووقف عليها وحضر مؤتمرا لها، ولعلي اسميه (لوريس مالاغوزي) السعودي، وهو القائد الروحي لهذا المشروع، ونحن معه كفريق مكون من عدة أشخاص بدأوا رحلة الحلم إلى تحقيق الواقع على صفحات الفيس بوك في (مجموعة المهتمين بمدارس ريجيو التعليمية) ولهم وقفة نبيلة يسيرون فيها بخطى أنيقة نحو تأسيس هذه المدارس في مملكتنا الحبيبة، وذلك ليس ببعيد عن استقطاب وزارة التربية والتعليم ودعمها لخروج هذا المشروع في ظل ميزانيات التعليم الكبيرة، نحن متفائلون جدا لاسيما عندما نتذكر أن أهالي روجيو إيميليا بدأوا مشروعهم ببعض الطوب والبيوت المدمرة، وما حققوه هو نتاج نضال مستمر عمره أكثر من خمسين عاما لإخراج أفضل المدارس؛ عفوا أفضل الأجيال.