عندما اجتمعت وفود 27 دولة في منتجع "بريتون وودز" بأميركا في عام 1947 لوضع أسس النظام العالمي الجديد، الذي عُرِفَ فيما بعد بمفهوم "العولمة"، أقرّ المجتمعون إنشاء ثلاث مؤسسات اقتصادية أطلق عليها أسماء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية الجات التي تحولت لاحقاً إلى منظمة التجارة العالمية.

لنفترض أن صُنّاع القرار السياسي في مجموعة العشرين قرروا اليوم عقد اجتماعهم القادم في نفس المنتجع لتصميم نظام عالمي جديد. لا شك أن جدول أعمالهم سيكون مليئاً بمشاكل الأزمة الاقتصادية الحالية من أزمة منطقة اليورو، مروراً بالنظام المالي العقيم، وانتهاء بالخلل في ميزان التجارة العالمية.

في هذا الاجتماع القادم ستطلع مجموعة العشرين على حجم كارثة انهيار الأسواق المالية والعقارية، التي فاقت 17 تريليون دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، لتعادل 20% من قيمة الاقتصاد العالمي و150% من قيمة التجارة العالمية.

في المنتدى المقبل ستتجه الأنظار إلى الدول التي استباحت أحكام العولمة بأنظمتها المالية وأخلت بشروط التكافؤ في الفرص بين الحقوق والواجبات وتمادت باستخدام الأساليب الحمائية المشوهة للتجارة. هذه الدول لم تلتزم بتنظيم قواعد المقايضة المالية والتمويلية ومراقبة أحكام الرهن العقاري وتقنين القروض التمويلية وتقليص ديونها قبل أن تستشري الفوضى في أسواقها المالية. وهذه الدول لم تحترم قواعد فتح مزيد من أسواقها أمام صادرات الدول الفقيرة بدلاً من عرقلة انسيابها باستخدام العوائق الفنية والضرائب التمييزية مما أدى إلى تفاقم أسعار المواد الأساسية والغذائية.

في كتابه الصادر في منتصف العام الجاري تحت عنوان "اقتصاد واحد ووصفات عديدة: العولمة والمؤسسات والنمو الاقتصادي"، أوضح "داني رودريك" أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة "هارفارد" أن أنظمة الحوكمة يجب أن تكون متأصـلة في الأسواق المـالية العالمـية للحد من تيارات "العولمة" الجارفة.

قدرة الأسواق على تنظيم نفسها فشلت كفكرة سائدة في الدول المتقدمة وأدت إلى توجيه ضربة قاصمة للاقتصاد العالمي في الأزمة المالية الأخيرة. فالأسواق تتطلب مؤسسات تنظيمية أخرى لدعمها، مثل المحاكم والأطر القانونية والأجهزة التنظيمية لوضع القواعد وفرضها والإشراف على تنفيذها. كما تحتاج إلى الركيزة السياسية التي تضمن توزيع الثروة العادل، وتنظيم شبكات الائتمان، وتفعيل دور الضمان الاجتماعي.

ولقد أكد مؤلف الكتاب "داني رودريك" أن محاولة الدول المتقدمة تحقيق حلمها بتخفيف السيطرة على الأسواق المالية ليس أكثر من مسعى عقيم. فمن غير المرجح أن تتخلى الحكومات عن قدر كبير من سيطرتها على المؤسسات الوطنية، ولن تستفيد المجتمعات ذات الاحتياجات والتفضيلات المتنوعة من القواعد التوفيقية.

ويضيف الكاتب أن فرص التعاون الدولي في سعينا إلى تحقيق أهداف مفرطة الطموح في مجال العولمة، أهدرت في كثير من الأحيان وأسفرت عن تحقيق نتائج ضعيفة، لأن التعاون الدولي في العولمة لن يتحقق إلا إذا كان مرهوناً بالقواعد الثابتة والأحكام العادلة لتنتفي التفضيلات والمزايا التي تتمتع بها الدول القوية فقط. لذا فإن قواعد "بازل" بشأن متطلبات رأس المال وأحكام منظمة التجارة العالمية بشأن الإعانات والدعم وحقوق الملكية الفكرية وتدابير الاستثمار، أصبحت نوعاً من المبالغة في شرعية العولمة وأدت إلى عرقلة الالتفاف حولها والاطمئنان إليها.

للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، لابد أن تتبنى الدول كافة سياسات مركزية موثقة لحوكمة مؤسساتها المالية على المستوى الوطني، وأن يكون تحرير الأسواق مرتبطا بمستوى التنمية في دول العالم حتى يتسنى لها تنمية وتطوير مؤسساتها على أفضل وجه. والدليل على ذلك أن الأسواق الأميركية والأوروبية واليابانية، التي أخفقت في حوكمة شركاتها ومكافحة احتكارها وترتيب أنظمتها المالية، استطاعت من خلال العولمة الاستئثار بالثروات المفرطة على حساب أسواق الدول النامية.

الاقتصاد العالمي لن ينجح مستقبلاً في تنمية مصادر دخل الدول إلا إذا قامت هذه الدول بتطوير مؤسساتها المالية ضمن نظام مؤسساتي من شأنه أن يعزز مستويات النمو دون عرقلته. فالدول لديها الحق في حماية تنظيماتها ومؤسساتها الخاصة دون أن تتعارض مع أحكام العولمة.

الحقيقة التي يجب أن تتقبلها الدول تنحصر في قدراتها الذاتية على استخدام أحكام العولمة في تنظيم سياساتها المالية وتقنين معايير العمل والمحافظة على صحة المستهلك. وقد تقوم بهذه الخطوات من خلال الحماية والائتمان والدعم، دون تهديد التجارة الحرة بشكل واضح.

لقد حان الوقت لكي تقتنع الدول الرأسمالية بأن أحكام العولمة لا تخولها استباحة مبادئ الحرية الاقتصادية على حساب العدالة في تحرير الأسواق التجارية، ولا تمنحها حق استنزاف خيرات العالم لانتشال أنقاض سياساتها المالية. كان من واجب أميركا أن تقوم بتنظيم أحكام الرهن العقاري وتقنين القروض التمويلية وتقليص ديونها قبل أن تستشري الفوضى في أسواقها المالية، وكان من واجبات أوروبا أن تتوقف عن تقديم الدعم المادي لصادراتها الزراعية حتى لا تحرم الدول الفقيرة من منافستها العادلة وزيادة إنتاجها الزراعي، وكان من واجب الدول المتقدمة أن تسعى جادة لفتح مزيد من أسواقها أمام تجارة الدول النامية بدلاً من عرقلة انسيابها عبر الحدود بالعوائق الفنية والضرائب التمييزية حتى لا تتفاقم أسعار المواد الأساسية والغذائية العالمية. وكان من واجب أحكام العولمة أن تقف سداً منيعاً أمام تجاوزات الدول المتقدمة حتى لا تقف الدول النامية والفقيرة حائرة أمام نزاهة أنصار العولمة.

الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية خلطت بين مبادئ العولمة وأنظمة الحوكمة.