لماذا يعشق هذا المعلم مهنة التدريس، إذا تحدث عن مهنته تحدث باسما مفوها فصيح اللسان؟! ولماذا تجد معلما آخر يتعمد عدم الإشارة إلى مهنته، ولو فعل.. سرعان ما يتجاوزها لغيرها من القضايا؟! لماذا نجد هذا المعلم يبدأ يومه بحماس عامدا تحقيق إنجازات محددة، رافضا النمطية البغيضة في أدائه لمهنته، يستقبل طلابه بترحاب ويودعهم بشوق، ويجد منهم القبول والتفاعل نفسه، وآخر يُجر إلى طلابه جر السجين إلى سجنه، مكفهر الوجه مقطب الجبين، يؤدي عمله بجمود مفتعل، طلابه عقولهم نائمة.. مع أنهم وبقدرة قادر صامدون على كراسي ينافسونها في جمودها؟! ولماذا نجد آخر يدخل ليحدث نفسه، فلا هم يتابعون ما يقول ولا هو يأبه بما يفعلون؟! ولماذا يعتمد الطالب المنتظم على دروس خصوصية تحرق ميزانية أسرته؟! ولماذا ظهرت أنماط دخيلة من العنف في مدارسنا هذه الأيام؟! ولماذا النتيجة على الأغلب مخيبة لآمال أولياء الأمور وللمجتمع والوطن، فقد ضاع أبناؤه عندما ضيع المعلم أمانته؟
في واقع الأمر اللوم لا يمكن أن يوجه للمعلم دون غيره، فإدارة المدرسة ساهمت فيما وصل إليه، فهي بقراراتها الارتجالية تارة، وغير المدروسة تارة أخرى الداعم الأول لذلك الخذلان، فهي تسند للمعلم الكثير من المسؤوليات، وتطالبه بأكثر من طاقته، وترفض على الأغلب مقترحاته وقبل دراستها، فلا هي المشجعة ولا هي المنصتة، خاصة لو كانت مقترحاته مطالبة باعتماد طرق تدريس حديثة لم تعتمد بعد في وزارة التعليم، سياسات كهذه تمنعه من الإبداع، فيظل المعلم داخل دائرة عفا عليها الزمن، سياسات كهذه اعتمدت توجه اللوم دون هوادة، وبعد هذا وذاك نعاتبه إن قصر في أداء عمله، بل قد نبغضه لذلك! ثم نحن نطالب المعلم ليكون إيجابيا فاعلا متفاعلا مع طلابه، ينشر السلام في نفوسهم وعقولهم، ويحميهم من العنف والتطرف الذي يمارسه بعضهم بامتياز، نطالبه بتنمية جذورهم الوطنية، وتفعيل إحساسهم بالواجب تجاه دينهم، وتجاه وطنهم وأمتهم وبشكل ملموس.
إن المشكلة في فشلنا في تحقيق ذلك لا تتوقف فقط عند المعلم الفاشل، ولا عند المعلم الذي فقد الإحساس بالمسؤولية، بل عند مدير موجه لا يفارق مكتبه، ولا يقابل إلا خاصته ولا يسمع إلا صوته، مدير وموجه لا يشكر المبدع، ولا يعاتب المقصر ولا يوجه المهمل، حالة كهذه شارك في إيجادها أولياء أمور تناسوا أهمية دور المعلم في حفظ أبنائهم وتوجيههم، تناسوا أن تأثير المعلم على الطلاب قد يفوق تأثير أسرهم سلبا وإيجابا، فتعاملوا معه دون إجلال ودون تقدير.
وأحمد المولى سبحانه أن معلمنا هذا نال اهتمام جامعة أم القرى التي احتضنته بحنو في "مؤتمرها الرابع للمعلم" والذي عقد الأسبوع الماضي، فقد مكن من الإعلان عن رأيه ومشاكله فسمع منه، وأسمع صوته الجهة المقابلة للمجتمع.
كما أشعر أن الهوة مهما كانت كبير بين الواقع والمأمول منه؛ إلا أن المطلوب ليس بالمحال، لقد أشعر أن مهمته سامية بقدر مكانته بيننا، وأنه قادر على تحقيقها بإذن المولى سبحانه، وأن دوره ليس حشو عقول الطلاب بمعلومات لا تمت للواقع المعاش، وأنه قادر على تخريج مواطنين مؤهلين يتحملون المسؤولية تجاه دينهم ووطنهم، ويرفضون التعامل بالعنف والتطرف ويعدون ذلك من النقائص الإنسانية.
جلسات متتالية كانت تدار في ذاك المؤتمر حول المعلم ودوره وهمومه وصفاته ومتطلباته وواجباته نحو وطنه، وواجباتنا كمجتمع نحوه، تخللتها مداخلات تظهر قيمة القضية المطروحة عند الحضور من أعضاء هيئة التدريس ومعلمين لمراحل التعليم العامة، وكان الحضور الذي ضم الطلاب والطالبات دليلا على وعي الكثير من الشباب بقيمة وأهمية هذه المهنة، وحرصهم على دعمها وحمايتها، وتقويم المعوج فيها، لقد ناقش المؤتمر وبكثير من الشفافية قضايا مسكوت عنها، ووعدنا بتوصيات وحوافز قيمة نأمل أن ترفع لوزارتي التعليم العالي والعام، ومنهما للمقام السامي، توصيات نأمل أن تحرك المياه الراكدة.
إلا أنني أتطلع إلى إيصال اللائحة التنظيمية الشاملة لحقوق وواجبات المعلم لكافة المعلمين والمعلمات، فمن شأن ذلك رفع الحرج من على أكتافه وأكتافنا، إذ عليه أن يعرف كيف يسير وكيف نوجهه في حال أحسن التصرف، وكيف ينتهي به المقام إن أساء، ولا بد أن تكون المزايا مفعلة، والعقوبات مفعلة أيضا، فلا قيمة للوعود الرنانة وللتحذيرات المجمدة، فالمخطئ يعاتب، ثم يعاقب، ولا بأس بفصله إذا ثبت بالدليل القاطع تسيبه وإهماله لمهنته، وكذلك المعلم المبدع.. الحريص.. المخلص.. لطيف المعشر لا بد أن نشد على يده، نصفق له ونكرمه، فالمعلم هو المحرك الأساسي لعقول ووجدان وتفكير أبنائنا، الذين هم ـ وكما يحلو لي دوما أن أقول ـ حلم أمسنا وأمل مستقبلنا.
لقد لاحظت في هذا المؤتمر ليس فقط الاهتمام المتوقع من عميد كلية التربية الأستاذ الدكتور "زايد بن عجير الحارثي" رئيس اللجنة التحضيرية والتنظيمية للمؤتمر، والذي يذكرني في أسلوبه بالمبدع معالي الدكتور "محمد العقلا"، بل لاحظت اهتمام معالي مدير جامعة أم القرى الدكتور "بكري بن معتوق عباس" الذي تابع معظم حيثيات المؤتمر وبشكل مباشر، وأظهر الكثير من الحماس لدعم إدارة الجامعة لما جاء فيه. أما قسم الطالبات فلا أفهم هل كان المحرك الأساسي فيه لطف نساء أهل مكة، أم أن الجو العام المحيط بهن دفعهن لذاك التفاعل، فاللجان التنظيمية كان على درجة عالية من التفاهم والانسجام، كان الهدوء على الأغلب يعم القاعات المخصصة لنقل جلسات المؤتمر، وبالتالي لم أجد ـ بحمد الله سبحانه ـ صعوبة في متابعة الجلسات وما دار فيها.