لا أزعم أنني أجريت دراسة "علمية" قادتني إلى ما ستتطرق له هذه السطور من ملاحظات وإشارات وأحكام قد لا يوافق عليها الكثيرون، ويمكن أن يحتج عليها البعض ويرى فيها مجانبة الصواب. ولهذا بادرت بتسجيل هذه الملاحظة إنصافا لمن يخالف في الرأي، وتقديرا وتشجيعا لمبدأ "تعدد" وجهات النظر، باعتبارها ظاهرة صحية، إذا كان الهدف هو البحث عن الصواب. و لكن معايشة الإعلام المحلي لفترة ليست قصيرة في أعمار الأفراد، ومتابعة تطوره وتفرع موضوعاته وارتباطها بحياة الناس، وتفاعلهم معها، ورصد أساليب تناوله للأفكار ومناهج إدارة الشأن العام، وطرق معالجته لقضايا التنمية، انتهت بي إلى "الظن" بأن إعلامنا ـ في غالب أمره ـ لا يتناول قضايا التنمية بوعي تخطيطي "قصدي" باعتباره أحد "محركات" التنمية، واللاعب الرئيس في زيادة الوعي بها، ونشر ثقافتها بين الناس، حتى تصبح جزءا أساسيا مما يشغلهم. فالمنهج السائد هو "الانفعال" الآني بالحدث والاحتفاء به، حين تصدر الإشارات أو التصريحات من المسؤولين الكبار فتهرع وسائل الإعلام إلى إقامة "المظاهرات" والتسابق إلى الإشادة المتعجلة، والاكتفاء بالملامح الظاهرة التي ما تلبث أن "تبرد" وتفتر ثم تختفي. وبذلك تكون المعالجة قد فشلت في وظيفة التفسير والتعليل والنقد البناء الذي يساعد على تبين مواطن الخطأ، والخلل الذي لا يسلم منه نشاط الإنسان.

وتحتفظ الذاكرة بالكثير من "ملفات" التنمية الرئيسية التي اهتمت بها الصحافة، وفتحت صفحاتها لها، ثم خفت بريقها، وتراجعت مكانتها، وقل حضورها في المعالجات رغم استمرار أهميتها، وحاجة المجتمع إلى المزيد من متابعة مسيرتها، ورصد نجاحاتها أو انحرافها عن الهدف الذي قامت من أجله.

ومن قضايا التنمية المرتبطة بفكرة توسيع مشاركة الناس في إدارة شئونهم، والتي "توارت" عن المشهد الإعلامي، وضعف الاهتمام بها طوال السنوات الماضية، ثقافة الانتخابات، فبعد "الهبة" الكبيرة التي استقبل بها السعوديون انتخابات المجالس البلدية قبل ست سنوات، والاهتمام الكبير الذي أعطته الصحافة لهذا الموضوع حتى نجحت في إقناع "المزاج العام" بأن الانتخابات وثقافتها ومتطلبات نجاحها أصبح خيارا استراتيجيا وطنيا، نجد الموضوع "ينسحب" من قائمة القضايا المحورية في معالجات الإعلام، ويقل الاهتمام به، وتتراجع أهمية متابعة التجربة والمساهمة في رصد إخفاقاتها، والعمل على دعم أسباب نجاحها. وهذه الأيام تعود العناية "الموسمية" بالانتخابات في الدورة الثانية للمجالس البلدية، بعد تجربة ست سنوات، لكن يلاحظ ضعف اهتمام الصحف بهذه الدورة الجديدة، فما يتم من متابعة أو "محاولة" التنافس على أخبار المرشحين يرتبط بالجانب "التجاري" ويقوده المسوقون أكثر من الصحفيين، فالمساحات والتغطيات والمتابعة ترتبط غالبيتها بالمساحات الإعلانية المشتراة، وليس بالبرامج الانتخابية ومدى واقعيتها، وعلاقتها بالصلاحيات الممنوحة للمجالس. وهذا يعني أن الصحافة لا تقوم في هذه الدورة بمهمة مساعدة الناخبين للتعرف على برامج المرشحين، وفحصها ومدى واقعيتها، وحقيقة ارتباطها بصلاحية المجالس، أي أن الدور "التوعوي" في المعالجة الصحافية خافت ومتراجع عن المكان الذي يجب أن يكون فيه، فلا نقرأ هذه الأيام حوارات معمقة تفحص ما لدى المرشحين من أفكار، وتكشف قدراتهم وأهليتهم، كما لا نقرأ ندوات ومناقشات ومقالات ناقدة للتجربة الأولى، ومدى أهمية الانتخابات بصفة عامة، ومدى جديتها في هذه الدورة. وكيف يمكن للمجالس البلدية ـ باعتبارها تعبيرا عن رأي الناس ـ أن تسهم في "مشروع" محاربة الفساد، الذي أصبح مهددا حقيقيا لمشاريع التنمية في البلاد، وعائقا حقيقيا أمام وصول النفع العام إلى مستحقيه.

لم تهتم الصحافة بمناقشة أهمية الانتخابات وثقافتها، وخطورة الدخول فيها بمعزل عن القيم الضامنة للحماية من أخطائها، التي تتجلى في المحسوبية والمناطقية والقبلية في جانبها السلبي.

فهذه "العلل" والأمراض تشكل خطرا على ثمرة الانتخابات، التي تهدف إلى فتح المجال أمام الناس للمشاركة في إدارة حياتهم من خلال "اختيار" المؤهلين المخلصين الأنقياء، الذين لم يعرف عنهم فساد الذمم، أو أكل أموال الناس بالباطل. ولم تهتم الصحافة بمناقشة مخاطر إعطاء الأصوات لمن لا يوثق بهم، ولم تركز على أن الصوت الانتخابي "شهادة تزكية" تدفع بالحاصل عليها إلى الأمام، وقد تمكنه من التأثير على حياتنا، وإذا أعطينا أصواتنا إلى من لا يستحق أو إلى ضعيف القدرات فإننا نكون قد أضفنا عنصرا سلبيا جديدا إلى "قافلة أعداء التنمية" من ضعاف النفوس و قليلي العلم والخبرة.

والخلاصة أن "التجاوزات" ليست من ملاح الإعلام الواعي الذي يسهم في ترسيخ مفاهيم التنمية، وأن الاستجابة الآنية للأحداث وعدم التبصر في مآلاتها ثم نسيان أهدافها يضعف القناعة بها ويقتل نزعة التعاطف معها.