-1 -
بعد حرب الخليج الثانية 1991، كان الحديث عن العولمة هو الشغل الشاغل لمنتديات الفكر العربي، وللصحافة العربية. وكان الخوف من العولمة أكثر من التفكير فيها. والوهم منها أكثر من الحقيقة فيها.
ومن الملاحظ، أن بعض المفكرين الغربيين يحذرون قراءهم من ضرر العولمة على العالم الصناعي ومنفعتها للعالم الثالث، وهم بذلك خائفون على أنفسهم من العولمة، كما هو الحال لدينا. فالكل خائف على ما يبدو. ومبعث خوف الغربيين متأتٍ، من أن العالم الثالث سوف يجتذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية نتيجة لبكورية هذه الأسواق، ورخص الأيدي العاملة فيها. وبذا، فسيُحرم العمال الغربيون من فرص عمل كثيرة، قُدرت بنحو نصف مليون فرصة عمل ضائعة في أمريكا الشمالية وحدها، نتيجة لاتفاقية نافتا NAFTA. وأن حجم استثمارات الغرب في العالم الثالث بلغ 100 بليون دولار مع نهاية 1993. وهو رقم ما زال متواضعاً، قياساً بالدخل القومي لأمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية، واليابان، الذي بلغ 18 تريليون دولار.
-2-
وكما جاءت الحداثة في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين بزفة كبيرة، فلم يبقَ شاعر أو كاتب أو صحفي، إلا واشترك فيها ممن يعرفون، وممن لا يعرفون، وممن يعلمون، وممن لا يعلمون، فقد جاءت العولمة كذلك في نهايات القرن العشرين. وكانت "زفَّة فكرية وثقافية" أخذت دور النشر، والصحافة العربية، والإعلام العربي الرسمي والخاص يساهمون فيها، ويدعون جموع المثقفين إلى طرح أفكارهم وآرائهم، وتعقد لهم الندوات، وتنشر المجلدات التي تتحدث عن العولمة، والخطر الداهم، والوباء القادم. وغدت العولمة مادة مطلوبة بشدة للكتابة في الصحافة اليومية، والشهرية، والفصلية. وساهمت العولمة بذلك، في تنشيط سوق النشر العربي الكاسد، كما سبق وساهمت العلمانية، والحداثة بذلك.
-3-
وكما جاءت العلمانية في منتصف النصف الثاني من القرن العشرين بزفة أخرى كبيرة، اشترك فيها القاصي، والداني، والعالم، والجاهل، ودارت فيها معارك طاحنة بين أهل اليمين وأهل اليسار، وكُرست لها المجلدات أيضا. وكانت كتبها تباع وتنافس كتب السحر، وعذاب القبر، والطبيخ، وممالك الجان.. كذلك كان حال العولمة.
وكما تحولت الحداثة والعلمانية إلى شعارات سياسية خطابية برّاقة، تصلح لقيادة المظاهرات الشعبوية الصاخبة، فقد كان مصير العولمة كذلك. فنحن أمة مولعة بـ"سحر البيان" حتى في أعسر القضايا، وأكثرها خطورة على حياتنا. فلا مانع لدينا من التخلي عن الحقيقة العلمية الصلبة، مقابل "سحر البيان"، والاستمتاع بلذته. ومن هنا تحولت العولمة إلى شعارات سياسية رومانسية، فيها من "سحر البيان" العربي المعتاد الشيء الكثير. في حين "أن التحديات الجديدة تتطلب منا الابتعاد عن الشعارات الرومانسية". كما يقول جمال التميمي ("العرب أمام مفترق طرق: الانفتاح على العولمة، أو الانغلاق على أنفسنا"، ص18).
-4-
كنا نسمع من مفكرين عرب وأكاديميين شعارات سياسية خطابية غير علمية، في نهايات القرن العشرين، وصفت بأنها "تعبيرات بديعة ومثيرة"، كما قال نبيل الدجاني في ("العرب والعولمة"، ص 334). كما كانت هناك شعارات سياسية أخرى تقول على لسان الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز:
"العولمة هي الاسم الحركي للأمركة". ("العرب والعولمة"، ص 334). ولم يكتف بلقزيز بهذا، وإنما هاجم دعاة العولمة، وقال إنهم من دعاة "الاغتصاب الثقافي"، و"العدوان الثقافي"، ومن مطلقي "مواويل الانفتاح".
وقال بلقزيز كذلك: "العولمة هي ثقافة ما بعد المكتوب".
ويعني بذلك، أن العولمة الثقافية أصبحت تحدد مصادر الثقافة من التلفزيون المرئي، وشاشة الإنترنت المرئية، ومن الأغاني والموسيقى المسموعة، ولم يعد للكتاب دور في الثقافة!
وقد علَّق على هذه اللغة غير العلمية عبدالخالق عبدالله بقوله: "هذه ليست لغة بحثية رصينة، ولا تخدم الفهم السيسيولوجي لظاهرة العولمة، والمستجدات العالمية. وهذه لغة خطابية وتعبوية لها مكان آخر". ("العرب والعولمة"، ص249).
والسؤال هنا لعبدالإله بلقزيز هو:
ما هو التفسير لمئات الآلاف من عناوين الكتب في شتى مجالات المعرفة، التي تصدر كل عام في الغرب والشرق، وتزداد عاماً بعد عام؟
-5-
وقال باحثون آخرون، كمنير شفيق إن "العولمة علاقات دولية، تحكمها شريعة الغاب في عالم الغاب. والعولمة مشروع أمريكي تدميري". ("في الحداثة والخطاب الحداثي"، ص 81). وهو يعني هنا أن العولمة مشروع أمريكي لتدمير الأديان، والقيم، وأنماط السلوك.
ولكن إبراهيم العيسوي يتساءل قائلا:
"ما الذي يضير أمريكا إذا استمرت الدول الآسيوية والعربية في التمسك بأديانها، وقيمها، وأنماط سلوكها، طالما أن هذه الدول تتبنى النموذج الرأسمالي، وتفسح المجال لعمل الاستثمارات الأجنبية. أليس هذا ما حدث في اليابان وجنوب شرق آسيا؟"
أما الباحث اللبناني وجيه قانصوه، فقد قال: "العولمة انبجاس ضوء في ظلمة الصراعات، والهيمنات، والإلغاءات القائمة، وزحزحة لهوامات الحقوق التاريخية بالأرض والسلطة. إنها تفكيك لسلطة السيد والعبد. إنها استحقاق كوني، وفرصة ملحة". ("تحولات هامة ووعود حذرة"، ص 6).
ولنلاحظ هنا العنجهية القومية، وكيف يلجأ الباحثون والدارسون العرب إلى استنفار العصبية القومية استنفاراً عشائرياً وقبلياً ضد ظاهرة علمية واقتصادية بحتة، ليس لها موقف معادٍ من أية ثقافة إنسانية. ولكنها في الوقت نفسه تعادي الثقافات التي تحدُّ من النشاط الصناعي والتجاري، وتقف حائلا وسدا، في وجه فتح أسواق العالم على بعضها.