يبذل الثوار في ليبيا جهوداً حثيثة بهدف ضم جميع أرجاء ليبيا إلى الدولة الوليدة. يجب أن يعمل المجلس الانتقالي لضمان عدم اللجوء للقوة المفرطة التي يمكن أن تقوض الثقة بين أبناء الدولة الليبية. إن وجود حزازات وكراهية بين أبناء الشعب هو أكبر أعداء بناء مستقبل ديموقراطي في أي دولة.

المناظر التي نراها في تونس ومصر وليبيا تؤكد أن هناك إشكالية حقيقية لا بد أن تتعامل معها هذه الديموقراطيات الوليدة. بدأت العاطفة الأسرية والقبلية والدينية تؤثر على الكثير من مجريات الأمور. هذا يعيد الوضع إلى نقطة الصفر، فما لم يكن هناك انتماء واضح لا شك فيه للدولة الناشئة قبل كل شيء، فإن الثورات ستفرز وبالاً على هذه الدول. الأمر الذي قد يدخل الأنظمة الجديدة في أنفاق وسراديب القبلية والجهوية والمذهبية.

أبرز عيوب النظرية الديموقراطية "وهي كثيرة"، أنها ترى الإنسان بعيداً عن العنصر العاطفي الذي يسيطر عليه. الديموقراطية عبارة عن نظرية جامدة مادية تتوقع أن يكون الجميع محكومين بعقولهم لا بعواطفهم. الديموقراطية تفترض أن يسيطر على الناخب الذي سيتوجه إلى صناديق الاقتراع تغليب الصالح العام. وأن يتوجه كل من يحق له الاقتراع إلى الصناديق فعلاً. وأن يعرف الناخبون جميع المتنافسين وبرامجهم ومصداقيتهم وتاريخهم.

رغم قدم ممارسة الديموقراطية من قبل الغرب، إلا أنك لن تجد رئيساً يحكم أي دولة غربية ديموقراطية لا تتوفر فيه عناصر الوسامة والشخصية الجاذبة "الكاريزما" التي يسيطر بها على قلوب "وليس عقول" الناخبين. تتكشف عيوب الديموقراطية أكثر عند تطبيقها في دول يسيطر عليها المد العاطفي والعنصري والقبلي والشد المذهبي، فإذا كان تأثير العاطفة على قرار الناخب الغربي يمثل ثلاثين في المئة فإنه لن يقل عن ثمانين في المئة في حالة مثيله الشرقي. الناس في الشرق أكثر عاطفية وتعلقاً بالمفاهيم والموروث الاجتماعي. فمهما شطح الشباب في فترات المراهقة، فهم يعودون لترسيخ القيم التي تربوا عليها ما إن يتجاوزوا هذه المرحلة، وتصبح مسؤولية التربية على عواتقهم. ليقوموا بغرس القيم التي ورثوها.

هنا تبدأ معضلة التحولات التي عمت في عدد من الدول العربية. الشعوب تطالب بالديموقراطية، إلا أنها بطريقة أخرى تتعلق بما تراه قريباً لعاطفتها وليس للعقل والمنطق.

يظهر لنا تأثير العاطفة عندما يخرج المواطنون مطالبين بفصل أشخاص أو إلغاء قرارات بناء على رغبات شخصية أو فئوية معينة. نجدهم يضغطون على حكومات لم تكن نتاج ممارسة ديموقراطية. حكومات مهمتها الرئيسة هي إيجاد الأجواء والقوانين التي تضمن تكوين ديموقراطية قابلة للحياة.

الناس تطالب بإنهاء البطالة، ومحاسبة المسؤولين، وتطبيق العدالة، وإلغاء الدين العام، ورفع مستوى دخل الفرد بالإضافة لقرارات سياسية دولية قد تكون ذات أثر على المدى البعيد على الدولة الناشئة ويفترض أن تكون من صلاحية البرلمان وليس الحكومة. لكنهم يطلبون هذا ممن ليس لديه إمكانية تحقيقه، بل ويؤثرون على تركيز الحكومة في إيجاد عملية ديموقراطية قابلة للحياة.

يبدأ الخوف من الترشح لدى الكثير من المؤهلين لخوض السباقات الانتخابية، كنتيجة لما يشاهد في الشارع، والمطالبات التي لا تنتهي، واستخدام التظاهر والاعتصام كوسيلة للضغط على متخذ القرار. إن ما يجري في الشارع المصري اليوم، ينذر بتحول أساليب المطالبة بالحقوق إلى استخدام وسائل أكثر عنفاً، بما يغذي ظهور جماعات عنيفة أو عصابات أو حتى مافيا، تحاول أن تبتز الحكومات، وهو ما عانته روسيا في بداية تحولها للديموقراطية.

لضمان الحياة والنجاح للديموقراطيات العربية الوليدة، لا بد أن يتوقف الجميع عن المطالبة، ويتجهون نحو المساهمة في تكوين المناخ الملائم لإنجاح هذه التجربة وألا يستعجل المواطن النتائج بل، وعلى الشعوب ألا تطالب بشيء سوى مرور فترة التحول بسلام وهدوء والتعامل بحضارية مع هذا التحول التاريخي، ليتم مستقبلاً توجيه المطالبات للحكومات المنتخبة وليس حكومة تسيير الأعمال.

كما تتحمل الأحزاب والتنظيمات السياسية والدينية مسؤولية مهمة في الحفاظ على الهدوء والأمن العام. يجب على العلماء والكتاب والسياسيين أن يمنعوا مظاهر النزاع والخلاف التي تؤجج الشارع وتؤثر على معنويات المواطنين. كما يجب على ذوي التأثير في الرأي العام أن يعملوا على كبت كل محاولات إظهار الخلافات الدينية والطائفية والمذهبية التي ينتج عنها الصراع بين فئات المجتمع، وبالتالي تؤذي مشاعر الناس وتوصل الحالة إلى النزاع المؤدي إلى الفلتان والتخبط وبالنهاية تعيد المواجهات بين المواطنين والدولة بمختلف عناصرها. إن استغلال مشاعر الناس في تحقيق أغراض سياسية، سواء كان هذا من خلال نشر الشائعات أو تضخيم اختلافات الرأي أو البناء على الحساسيات القائمة بين مكونات المجتمع، يعتبر خيانة لمبادئ وأسس تكوين الدولة. كيف يستطيع سياسي أو مسؤول أن يبني مستقبله على مآسي الآخرين! وكيف يتقبل المجتمع مثل هذا السلوك المشين ممن سيرسمون مستقبل الدولة بمختلف مكوناتها!

إن المسؤولية اليوم على من يتنافسون لتكوين الدول الجديدة بناء على المفاهيم الديموقراطية، تتركز في تحقيق الديموقراطية دون المساس بترابط مكونات المجتمع الدينية والسياسية والاجتماعية. بل إن النجاح الحقيقي هو في المحافظة على هذه المكونات والبناء على نقاط الاتفاق وتحجيم الاختلافات والتخلص من الحساسيات وجعل الوحدة الوطنية هدفاً أسمى في كل قول وعمل. والتاريخ هو من سيحكم في النهاية.