مازلت أذكر جيداً، أول جائزة ثمينة ــ 200ريال ــ أحصل عليها في حياتي، وكنت لم أتجاوز بعد الـ 15 عاماً، حيث حصلت على المركز الثاني في مسابقة البحث الأدبي بأحد المراكز الصيفية بجزيرة تاروت ـ شرق السعودية ـ والذي حمل هذا العنوان الكبير "سوق عكاظ: ملتقى الشعر العربي القديم". ولحسن الحظ، فإنني مازلت أحتفظ بذلك البحث "القيم" الذي كان عبارة عن 6 صفحات من ورق "الحجازي" الذائع الصيت آنذاك.

الآن، وبعد كل تلك السنين الطويلة، أعود للكتابة عن سوق عكاظ، ولكن بحلته الجديدة التي أضافت الكثير من القيمة والاعتبار والمكانة لهذا الحدث العربي الشهير.

ويُعد سوق عكاظ أشهر الأسواق العربية القديمة على الإطلاق، كما يُمثل انعكاساً واقعياً لصورة الحياة العربية الأصيلة قبل الإسلام بكل تفاصيلها المختلفة. وقد كانت الوفود والقبائل تجتمع فيه شهراً من كل سنة، ينشدون الشعر ويتفاخرون فيما بينهم، وقد جاءت تسميته بسوق عكاظ لأن العرب حينما تحل به يعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة والتناشد، ومفردة "عكاظ"، تعني الفخر والجدل وإقامة الحجة. ويعود تاريخ هذا المنتدى العربي الفريد إلى أكثر من ثلاثة قرون قبل الميلاد، ولكنه نشط في المئة السنة التي سبقت ظهور الإسلام، واستمر في العهد النبوي وصدر الإسلام، ولكنه دُمر ونُهب من قبل الخوارج قبل سقوط الدولة الأموية بفترة وجيزة، وتحديداً في عام 129.

كان سوق عكاظ عبارة عن تظاهرة عربية كبرى، تُعرض فيها مختلف الأنشطة والآداب والفنون، بل والكثير من السلع والبضائع التجارية، ولكنه اكتسب شهرته الواسعة في مجال الشعر، وبرز فيه الكثير من الشعراء الكبار كالنابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم والخنساء.

ومنذ 5 سنوات، وبعد انقطاع دام لأكثر من 1300 سنة، عادت الحياة من جديد لهذا السوق العربي الشهير. وبنظرة ثاقبة وذكية من شاعر الوطن الكبير خالد الفيصل ــ عرّاب هذا الملتقى الرائع ــ وإيماناً منه بأهمية الدور الكبير الذي لعبه هذا السوق كقيمة ثقافية وريادية في العالم العربي القديم, وبما يُمثله من مخزون ثقافي وأدبي كبير، تأتي هذه المبادرة الرائدة لجعل سوق عكاظ بكل تاريخه وتراثه وشهرته في صدارة المشهد الثقافي الوطني، بل ودفعه ليكون التظاهرة الثقافية والحضارية الأبرز، ليس على المستوى المحلي، بل وعلى المستوى العالمي. خالد الفيصل بفكره الوقاد وتجربته الطويلة, أراد لهذا الملتقى الاستثنائي أن يكون نموذجاً رائعاً للسياحة الثقافية والتراثية تحت خيمة واحدة، وهي خيمة سوق عكاظ السنوي. ومما يُكسب هذا السوق الثقافي الكثير من الشهرة والاهتمام والجذب، كونه يُقام في نفس المكان الأصلي، محاطاً بعبق التاريخ وألق الشعر، ليُعيد للأذهان بعضاً من أمجاد العرب وتراثهم الجميل.

وتأتي أهمية هذا المنتدى الثقافي الفريد، كونه يُمثل الوجه الحضاري الجميل لأمة ترفض أن تعيش في الظل، لأنها تعشق النور، بل هي في الأصل، موطن النور الذي أضاء الدنيا، كل الدنيا. فسوق عكاظ، ليس مجرد استدعاء للشعر، بل هو أكبر من كل ذلك بكثير، فهو ملتقى للشعر والأدب والثقافة والفن والتاريخ والسياحة والتراث، ممزوجاً بكل تقنيات العصر الحديث، وذلك تأكيداً على ضرورة اتصال التراث بالحاضر، وتوأمة الأصالة والمعاصرة.

عكاظ، كما يراه خالد الفيصل، ليس للشعر وحده، بل للثقافة والأدب والسياحة والآثار والتجارة والتقنية، وغيرها من مختلف الأنشطة والمجالات، كما أن عكاظ ليس للماضي فقط، بل هو للحاضر والمستقبل. إن عباءة الشعر بكل أناقتها وجمالها وشهرتها، لن تؤهلنا لعضوية نادي العالم الأول. نحن نعيش الآن في عصر العلم والمعرفة والثورة المعلوماتية والتقنية الهائلة، ونشهد السباق المحموم بين كل الأطراف للسيطرة على العالم. نحن جزء من هذا العالم، ونعيش في هذا الخضم الرهيب من الصراعات والمنافسات والاصطفافات والتجاذبات بين كل الدول والقوى والتحالفات، ونحتاج إلى الكثير من الإرادة القوية والرغبة الصادقة، مدعومة بمصادر القوة والمعرفة والثقافة والحكمة.

إن الفكرة الذكية التي يتبناها خالد الفيصل لتسويق القيم والمبادئ والأفكار التي نتطلع إليها في هذا الوطن العزيز من أجل بناء جيل عصري يعي جيداً أهمية العلم والمعرفة، ويمتلك القدرة على التعاطي مع كل مصادر التقنية الحديثة، دون أن ينسلخ من هويته العربية والإسلامية، هي ــ أي تلك الفكرة ــ بحاجة إلى تضافر كل الجهود الخيرة والإمكانات الكبيرة، ويبدو أن هذا السوق الرائع خطوة في هذا الاتجاه.

سوق عكاظ فرصة ذهبية جاءت في الوقت المناسب لكي تعرض الوجه المشرق والحقيقي لهذا الوطن العريق. فقط، نحن بحاجة لأن نجعل من هذه التظاهرة الثقافية والعلمية والاجتماعية ماركة كرنفالية عالمية يحتفي بها العالم، كل العالم.