مرت بضع سنوات على لقائنا الأخير، وحين تقابلنا أدهشتني هذه التحولات الفكرية التي تصبغ فكر هذا الشاب البسيط مقاربة مع جدالاتنا السابقة. وللحق لم يكن هذا الشاب قاعديا، ولكنه مثلما قال لي بالأمس كان على بعد خطوات معدودة ذات يوم قريب ومثلما قال وهو يتبسم: كنت الضحية التي شردت من بين يدي هذا التيار لأن الوقت الصحيح ساق لي بفضل الله ظرفا طارئا أبعدني برهة كافية من الزمن، وكانت البرهة كافية لليقظة. وبكل الدقة، فإن هذا النمط من الشباب هو المدخل الصحيح لأن يستعرضوا تجاربهم وأن ينشروها للملأ وهم من وجهة نظري أكثر ثقة وصدقا من عشرات ـ المتحولين ـ الذين يعودون إلينا بتجاربهم ولكن بعد أن أوغلوا في العنف وبنوا قناعاتهم الجديدة، ربما، تقية هي أقرب للتلون المرحلي أو هروبا من الملاحقة الأمنية والفكرية. والحق أنني شعرت بالأسى الشديد حين استرسل هذا الشاب في توصيف مرحلة أسماها بنفسه: مرحلة الفكر الطالباني. الأسى لأن الضحية الشاردة من أتون هذا الفكر هو ذات الفكر والمرحلة التي استقطبت عشرات الضحايا الذين أزهقوا زهرة حياتهم في معركة بلا راية.

يستعرض هذا الشاب كيف كانت المدينة مكتبة متحركة لنشرات الكتب التكفيرية التي كانت تتناقل بالخفاء بين أيدي عشرات الشباب في فصول دراسية لم يكن لها من مكان أو سقف إلا فضاءات المدينة. كيف كانوا يمتحنون فيها على انفراد حتى وهو يعترف أن الغالب من هؤلاء الشباب كانوا أقل وأدنى بكثير في أدواتهم المعرفية من أن يستوعبوا ما يمتحنون فيه.

كيف كان شتم الأفاضل من كبار العلماء، مدرسة منهجية لهؤلاء الضحايا حتى جاءت الصدفة وهو يلتقي بأحد رموز هؤلاء الكبار الأفاضل.

وفي المقابلة مع فضيلة الشيخ ارتفعت نبرة هذا الشاب وهو يتحدث عن منهج عالم راحل كان ملء السمع والبصر وينتقد آراءه وفتاواه. يواصل: وحين بدأت في وصف الراحل ببضع كلمات جارحة، ما كان من الشيخ الفاضل إلا أن بكى وحين فرغ من البكاء قال لي جملة واحدة: أنا لا أبكي رحيل فضيلة الشيخ (؟) ولكنني أبكي عليك أن تلقى الله بهذا السباب في حق من أفنى حياته كلها داعية إليه وقابل وجه ربه وهو الذي قطع كل ما يملك وقفا لمسجده وطلاب حلقته. ودعت هذا الشاب وهو يحملني رسالته: لقد انتهى العصر الطالباني. هو يظن أن المدرسة قفلت أبوابها ولكن: لأنه ترك المدرسة ولم يعد يقرأ من المكتبة. هي موجودة تستقطب طلابا آخرين.