أعاد التفجير الذي شهدته مدينة الأسكندرية المصرية، وسقط ضحيته أكثر من 20 قتيلا، ونحو 79 جريحا، والذي استهدف كنيسة "قبطية"، ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة، أعاد هذا الحادث، صورة العنف المسلح من جديد، خصوصا أن أصابع الاتهام توجهت لعناصر "خارجية"، ربما تكون مرتبطة بتنظيمات إسلامية أصولية مسلحة، على علاقة بـ"القاعدة"، وهو الانفجار الذي يأتي بعد حادث وقع في يناير، من العام الماضي، قتل فيه ستة مسيحيين ورجل شرطة مسلم، في هجوم بالرصاص، خارج كنيسة في مدينة "قنا" بجنوب البلاد، مما تسبب في اندلاع احتجاجات. وكان تنظيم "دولة العراق الإسلامية" قد طالب في تسجيل "بإطلاق سراح" امرأتين قبطيتين مصريتين، زعم أنهما اعتنقتا الإسلام، وأعيدتا بالقوة إلى الكنيسة، مضيفا أنه في حال لم يفرج عن السيدتين فإن "القتل سوف يعمكم جميعا وسيجلب (بابا الأقباط) شنودة الدمار لجميع نصارى المنطقة". وهي التهديدات التي جعلت كثيرين يوجهون أصابع الاتهام لتنظيم "القاعدة"، والفكر المتشدد الذي يقف وراءها، أو ما يعرف بـ"السلفية الجهادية"، رغم الضربات الموجعة التي وجهت لهذا الفكر، في العديد من بلدان العالم الإسلامي.
انحسار ظاهر
تشهد الحركات المسلحة الإسلامية ممثلة فيما يطلق عليه "السلفية الجهادية"، تغيراً في تكتيكاتها، وتراجعاً من قبل كوادرها التنظيمية في المناطق التي تشهد استقراراً كما في الحالة السعودية، وما أفصحت عنه الأيام الخوالي من تفوق نوعي للاستخبارات السعودية في كشف عملية الطردين المخففين اللذين أرسلا عبر اليمن للولايات المتحدة الأميركية تمهيداً لتفجير الطائرة.
ومن جهته يؤكد الخبير في شؤون السلفية علي عبدالعال في حديثه إلى "الوطن" أن "السلفية الجهادية جاءت كمصطلح إعلامي راج في المنطقة العربية عقب تفجيرات الدار البيضاء 2003"، مضيفاً "أن الحركات السلفية التي أخذت المنهج المسلح في عملية رفضها للطابع السياسي الموجود في بلدانها، كإقامة الحكومة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، تشهد انحساراً كبيرا في المناطق التي تشهد استقراراً اقتصادياً وتنموياً كما في الحالة السعودية، والتونسية"، معقباً "إلا أنها تشهد توسعاً ونفوذاً كبيرين في مناطق الصراع والنزاع كما في حالات اليمن، وباكستان، والعراق، والصومال"، وركز عبد العال في محور حديثه على أن "إفساح المجال للحريات، وإنعاش الأجواء الديموقراطية، وتطبيق دولة القانون، كلها عوامل ستساهم في خلخلة تركيبة السلفية الجهادية، وانتقالها إلى صفوف المجتمع المدني".
ضعف التركيبة
وينطلق الباحث الأردني المتخصص في الحركات الإسلامية المتشددة مروان شحادة، من المنطلق الذي ختم به عبدالعال تصريحه من أن ظروف انتشار فكر القاعدة وتطوره يعود إلى "فشل الدولة القطرية العربية في التنمية ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية" جاء ذلك في كتابه الجديد الذي حمل عنوان "تحولات الخطاب السلفي: الحركات الجهادية - حالة دراسية (1990-2007)، من إصدار الشبكة العربية للأبحاث والترجمة بيروت 2010.
التحول نحو المحلية
ويرى الباحث في شؤون الحركات الإسلامية المسلحة مراد بطل الشيشاني في مقال له منشور بصحيفة الغد الأردنية، وجود تحولات في التيار السلفي الجهادي، وهي – وفقاً لرأيه - تحولات تفرضها ظروف صراعه مع الولايات المتحدة والأنظمة التي تحاربه ويفرضها التيار ذاته بمنطق التكيّف والاستمرار، مضيفاً "لعل من أكثر التحولات لفتاً للانتباه ما يمكن وصفه، إن جاز التعبير، بـ "محلنة الجهاد"، أي تحول السلفيين الجهاديين إلى حركة محلية، وليس فقط تأسيسهم لعلاقة "تحالف"، مع المجتمعات الحاضنة لهم".
وأشار الشيشاني إلى أن القاعدة، والسلفيين الجهاديين، فشلوا في العراق، وفي الشيشان، ومناطق أخرى في العالم بسبب فقدانهم تأييد الحاضن المحلي، ولطالما بقيت علاقتهم مع المجتمعات "المستضيفة"، علاقة تحالف، ولكن يبدو أن "المستضيفين" الآن، في مناطق مختلفة، بدؤوا يتبنون الإيديولوجية السلفية الجهادية، وإن كانت اليمن والصومال مرشحتين لمثل هذا التحول، في ظل عدد من المؤشرات لمثل هذا التبني.
خلط الأوراق في اليمن
في تعليقات خاصة إلى "الوطن" يؤكد المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية باليمن نبيل البكيري "أن القاعدة ليست بذلك الحجم الذي تحاول بعض الأطراف أن تصوره، إلا أن ما لا يدركه اللاعبون بهذا الملف أن الفكر القاعدي و هو فكر سلفي جهادي ثوري، تساهم حالة الفوضى بشكل غير مباشر في تغذيته ورفده بمبررات الوجود والبقاء والتمدد، وهذا ما أثبتته الأحداث العالمية منذ ما بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر وردة الفعل الأميركية وسياساتها غير العادلة تجاه العالم الإسلامي التي أدت إلى تمدد تنظيم القاعدة عبر العالم بعد أن كان لا يتعدى مجموعة صغيرة متحصنة في جبال أفغانستان".
مضيفاً :" لا شك أن مستقبل السلفية الجهادية التي باتت تُختصر اليوم تسميةً بالقاعدة، تبدو أكثر ضبابيةً للمراقبين للشأن اليمني، أكثر من أي وقت مضى، لخطورة الظرف والوضع الذي تعيشه اليمن حالياً سياسياً واقتصاديا واجتماعيا، جراء الأزمات المتراكمة والخانقة التي باتت تهدد حاضر ومستقبل اليمن بالتشظي والانقسام والانجرار إلى أتون الفوضى وعدم الاستقرار الذي يمثل بيئة خصبة لنمو الأفكار والأيديولوجيات الثورية المقاتلة التي باتت تمثلها اليوم القاعدة". مبدياً قلقه، ومبعث ذلك – وفقاً للبكيري- أن "مبعث الخوف والقلق من مستقبل القاعدة يتأتى من الإصرار على ربط كل ما يجرى في جنوب اليمن بفظاعة القاعدة، وغض الطرف عن حالة الاحتقان السياسي الجنوبي الذي بات يُعبر عنه بالحراك الجنوبي المنادي بانفصال الجنوب" متهماً سلطة صنعاء المركزية بما أسماه "بخلط الأوراق". وحول مستقبل القاعدة في اليمن يقول البكيري "في ضوء استمرار التعامل الحالي مع ملفها بهذا الشكل من الضبابية والغموض واعتبارها قضية أمنية بحتة مقطوعة الصلة عن عوامل الأزمة اليمنية المتعددة سياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وثقافياً، سيؤدي ذلك إلى مزيد من الكوارث السياسية التي تخلق حالة من عدم الاستقرار الذي بدوره يشكل بيئة خصبة لنمو وتمدد الأفكار الجهادية كردة فعل طبيعية لحالة التمرد والثورة لدى هذه الجماعات ضد الأوضاع السائدة".
الحالة الموريتانية
أما الحالة الجهادية الموريتانية، فيشير الصحافي السياسي في شؤون الجماعات الإسلامية الموريتانية أمين محمد إلى القول "لا يبدو أن مستقبل السلفية الجهادية في موريتانيا مضيئاً جدا، حيث إن السلطات نجحت في تفكيك عدد كبير من الخلايا النائمة في البلاد، كما أن التراجع المتواصل للتنظيم الجزائري الذي يعتبر الحاضنة الأبرز بالنسبة للتنظيمات السلفية القطرية، يمهد هو الآخر لتراجع قطري أيضا". وفي محور آخر يقول الصحافي أمين "إنه بالرغم من أجواء الانفتاح الذي انتهجها النظام السياسي الموريتاني مع أتباع السلفية الجهادية خلال الفترات السابقة، فإن الأجهزة الأمنية أعلنت أكثر من مرة عن كشف محاولات من التنظيم السلفي لاختراق الجيش والأمن الموريتاني.
وينتقد الصحافي في شؤون الجماعات الإسلامية الموريتانية الخيار الأمني المتشدد الذي مارسه النظام السياسي السابق إبان مرحلة العقيد ولد الطايع ضد الإسلاميين بشكل عام، وتنقيبه المتواصل عن الإرهاب في الأراضي الموريتانية، والذي مهد – وفقاً لتصريحه- لنشوء قوي للمتطرفين في الأراضي الموريتانية، مضيفاً " أن النظام الموريتاني الحالي يتجه بشكل قطعي إلى مواجهة واسعة مع السلفيين، وهو ما قد يمهد لعودة جديدة إلى مسلسل العنف والعنف المضاد رغم الدعوات المتتالية للحوار مع هؤلاء وفتح باب المناظرة بينهم وبين العلماء الموريتانيين والاستفادة من التجربة الليبية والمصرية في هذا الصدد.
وبحسب مراقبين للحالة السلفية في موريتانيا، فإن ضغوطا دولية تستهدف القضاء العسكري على تنظيم القاعدة في منطقة الصحراء المغاربية، تدفع النظام الموريتاني باتجاه التشدد ضد السلفيين، وهو ما قد تنجر عنه نتائج عكسية، حيث أثبتت التجارب أن حالة التطرف تنمو باعتماد الحل الأمني كخيار وحيد، وتظل قابلة للانكماش والتراجع في حالة اعتماد وسائل متعددة، من بينها الحوار والاختراق الأمني كما في الحالة السعودية التي نجحت في تفكيك التنظيم داخلياً.
السلفية الصومالية
أما حالة السلفية الصومالية التي تعد – برأي الخبراء- من أكثر الحركات التي شهدت تحولات كبيرة، فيما عدا المخاوف التي أكدها عدد من الدبلوماسيين في حديث مع "الوطن"، وفضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، من استخدام الاستخبارات الإيرانية لفصيل مسلح قوي وهو حركة الشباب المجاهدين عبر دعمه من قبل دولة وسيطة (هي أريتريا)، حيث يتمثل الدعم في تقديم الأسلحة والدعم اللوجستي، وذلك للاحتفاظ بورقة ضغط لها في منطقة القرن الأفريقي في حال أعيد ترتيب المنطقة مع الولايات المتحدة الأميركية، ولم يتسن "للوطن" التأكد من صحة المعلومات الواردة على لسان الدبلوماسيين. ووفقاً لكتاب صادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في مايو الماضي 2010، يرصد السلفية الصومالية فإن (الشباب المجاهدين) واحدة من أكثر الحركات السلفية الجهادية صعودا خلال الفترة الأخيرة، وواحدة من أقوى المجموعات المسلحة، حتى باتت تمثل الرقم الأهم في المعادلة الصومالية الداخلية. ويعود تأسيسها إلى عام 2004 إذ يعتبرها بعض المراقبين امتدادا طبيعيا لجماعة (الاتحاد الإسلامي) التي جرى حلُّها 1996 لكن اختار هؤلاء الشباب مواصلة حمل السلاح. وبعد إنشاء (اتحاد المحاكم الإسلامية) كان هؤلاء الشباب جزءا رئيسيا منه، وظلت الحركة تمثل النواة الصلبة للمحاكم في فترة استيلاء الأخيرة على أكثرية أراضي الجنوب الصومالي في النصف الثاني من عام 2006، إلا أنّهم احتفظوا بأُطُرهم التنظيمية، إلى أن اختلفوا مع المحاكم بعد هزيمتها على أيدي القوات الإثيوبية، وإنشاء(التحالف من أجل تحرير الصومال) في العاصمة الأريترية أسمرا بقيادة الشيخ شريف شيخ أحمد (الرئيس الحالي للصومال) في سبتمبر عام 2007م، حيث اعتبر الشباب خطوة التحالف مع العلمانيين أو مَن لهم صلة بالحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله يوسف "غير متوافقة" مع مبادئهم، ومِن ثم رفضوا الانضمام إليها رغبة في إنشاء حركة جهادية لا تأتمر من أي جهة، وتصفها بعض التقارير الغربية بأنها عضو في التنظيمات الجهادية السلفية العالمية التي يوجد بها مسلحون تتعدد جنسياتهم، وينتمون لبلدان شتى من العالمين العربي والإسلامي. فحركة الشباب من جانبها ترحب باستقبال المقاتلين في صفوفها، سواء كانوا عربا من اليمن والجزيرة العربية، أو أجانب من أوروبا وأميركا، ومما يدلل على ذلك بيانات وتصريحات الناطق الرسمي الشيخ (أبو منصور علي ربو) المتكررة بأنهم "يفتخرون بانضمام مجاهدين مهاجرين" إلى صفوف الحركة. كما جاء في "بيان القيادة العامة لحركة الشباب المجاهدين" 2010. ويتردد أن الشباب تتلقى الدعم من الخارج وتراه نوعا من النصرة، سواء كان هذا الدعم في صورة أسلحة ومعدات من أريتريا، أو متطوعين، ما يمكنها من الاستمرار في الحرب. وتوصف عملياتها العسكرية بأنها تعتمد الطريقة العراقية من تفجير عبوات مزروعة في الطرقات، وسيارات مفخخة، وعمليات القصف المدفعي على القصر الحكومي ومقرات القوات الأجنبية، وهي تستغل شبكة الإنترنت لنشر بياناتها وتسجيلاتها التي تنشر في أغلب الأحيان بمواقع ذات صبغة سلفية جهادية.
رؤى تحذيرية
وبالرغم من حالة التراجع العامة التي أصابت مدرسة "السلفية الجهادية"، في مناطق الاستقرار وتزايد نفوذها في النقاط الساخنة، بحسب عدد من المحللين للظاهرة الإسلامية المسلحة، إلا أن تقريرا صادرا في سبتمبر الماضي 2010 عن "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية"، يتحدث فيه عن الوضع في أفغانستان، وأن الخطر الذي يشكله تنظيم القاعدة وحركة طالبان مبالغ فيه، داعياً الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود عمليات حلف "الناتو" العسكرية هناك، إلى تغيير إستراتيجيتها في أفغانستان، وعوضا عن زيادة القوات ومحاولة منع القاعدة من تنفيذ هجمات بالغرب، أن تركز الإستراتيجية على الحوار والاحتواء.
وفي سياق متصل صرح رئيس المعهد جون تشيبمان لصحيفة الجارديان بأن حجم القاعدة في باكستان محدود، ويقوم على أعداد قليلة من المقاتلين، خاصة إذا ما قورن بوجود التنظيم في أفغانستان ما قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، كما استبعد مدير المعهد، والذي عمل سابقاً نائباً لمدير الاستخبارات البريطانية نايجل انكاستر، أن يأتي تهديد من القاعدة من دول أخرى أيضا بما فيها اليمن والصومال.