من الطرفة الظريفة التي تظهرها تقابلية الصور أن بضع شقق تحولت إلى ورش في جنوب الصين لتصنع حتى اللحظة اثني عشر مليون علم لبضع دول عربية تحت وقع الطلب المتزايد على هذا النوع من الصناعة في الشوارع العربية الثائرة على أنظمتها الجمهورية. والحق أنني صدمت بمتعة الذهول وأنا أشاهد تقريرا عن الفوائد الصينية من مصائب العرب على قناة (CCTV) وفي التقرير تبدو الأعين الصينية الغائرة وهي في كامل اليقظة كشاهد على الدرك الأدنى الذي وصلت إليه هذه الشعوب وهي عاجزة حتى عن صناعة أقمشة الأعلام لتتظاهر بها في ـ مليونيات ـ الجمع المختلفة. وإذا وصل الحال بقوم أن يعجزوا عن صناعة راياتهم البسيطة بألوانها الثلاثة فإن لك من بعدها أن تحاكي وأن تحاكم الأهداف التي يرفعون لأجلها هذه الأعلام (الوطنية) المستوردة. من أجل ماذا يرفع هؤلاء الأعلام ولماذا يقبلون بالموت، شهادة، وهم يحملونها طالما هم يدركون أن هذه الأوطان التي يقاتلون لاستردادها عاجزة أن تدفع شعوبها كي تصنع الأبسط البسيط ولو في مجرد علم أو راية هي شعار الدولة. ما هو الوطن إذاً إن عجز قوام هذا الوطن حتى عن أن يصبغ قطعة قماش بالألوان. مخجل جدا جدا أن يشرح لك التاجر الصيني أسرار هذه اللعبة الصغيرة وأن يبسط لك أدواتها التي كانت محصورة في أطنان القماش الأبيض وبراميل الألوان الأربعة ومزيج من علك اللدائن الكيميائية التي يحولونها تحت ـ الكبس ـ البسيط إلى خواتم وأقراط ودبابيس بألوان أعلام بني يعرب. وبالطبع يبدو الجواب محسوما على السؤال عن السبب الذي أجدبت به الخارطة العربية حتى من أن تلد ورشة. هل هم الجماهير أم الأنظمة أم أن في الجواب ما يأخذ بالطرفين إلى القواسم المشتركة ليتحملا بنسب هذه السببية. نحن نعرف أن الزعيم الليبي قال بعد أربعين سنة: لقد دقت ساعة العمل فما الذي أوقف هذه الساعة لأربعين سنة؟. نحن نعرف أن الزعيم الذي سقط قبله في البلد المجاور قال بعد عشرين سنة لشعبه: لقد فهمتكم فما الذي استعصى على الفهم من قبل حتى يوقد الشرارة طالب تقنية عاطل لم يجد بداً من أن يجر صندوق بيع الفاكهة لأن شهادة التقنية العالية التي حصل عليها كانت تعيش في بيئة لا تسمح بالابتكار ولهذا قفز التاجر الصيني إلى نهاية اللعبة بذكاء مدهش ليصنع الحاجة العربية البسيطة: صناعة علم بلاد العربي على القماش ومعجون البلاستيك بأدوات ابتدائية وفي شقة سكنية مزدحمة. وكل ما أخشاه بعد أربعين سنة أخرى من اليوم أن يعيد الأحفاد نشر هذا المقال لأنه يصلح بامتياز يومها لشرح الظرف وملاءمة السببية. أنا لا أدعي رجم الغائب القادم ولكنني أقرأ الحيثية. الأدبيات المحتشدة التي أسمعها اليوم من بني العرب على الفضائيات في توصيف حالات الربيع العربي المعاصر هي نفسها التي أقرؤها في الأرشيف في وصف ثورات التصحيح والانقلاب التي سادت ذات عالمنا قبل أربعين سنة. كلهم يتحدثون عن الحرية والكرامة ومحاربة الفساد والإقطاع ومقاومة الذل والطغيان. لم يحشد فريق هنا مليونية مختلفة من أجل العلم والمعرفة ولم يقل أحد هناك إن العلة الأساس في هذا التخلف التنموي الذي ضرب جمهوريات الموز هو فكري تربوي ثقافي قبل أن يكون سياسيا، وبدرجة كبيرة. وبمثل ما أفرزت ثورات الخمسينات وما تلاها من القرن الماضي هذه القوائم التي احتكرت سماء العرب بحناجر المقاومة الثورية، بمثل ما أشاهد على هوامش ثورات الربيع الجديد ما لا يقل عن ألف وجه جديد من حديثي العهد بالسياسة. هي ثورات الربيع التي ستصبح خريفا لأن كل ثورة تلعن سدنة سابقتها وتحاكمهم ولكنها على النقيض صورة كربونية في الأدبيات وفي الممارسة. لم يقل أحد أو لم أسمع بأحد من حديثي العهد بالسياسة في ربيع العرب الجديد يتحدث عن مئات الجامعات التي تعجز معاملها الكيميائية عن صناعة مركب كيميائي ثلاثي من عناصر مصنوعة من الخام المحلي ولم أسمع بأحد يقول إن الصين ذاتها هي من أغرق صناعة قناديل رمضان التي بات العرب يستوردونها من الشقق الصينية. لم يتحرك لسان واحد منهم ليشير إلى أن إضبارة نوبل قد خلت تماما في العقد الأخير حتى من أي إشارة لشائعة بفوز عربي أو ترشيحه حتى في القوائم القصيرة. وخلاصة الاستنتاج أن العلم والمصنع والمعمل هو الثورة التي تستحق هذه المليونيات المتعاقبة. أما السياسة فسأقرأ الكف: ربيع العرب سيصبح خريفا لأن بذور أدبيات اليوم فيما ألمح هي شيء من شجر الأمس.