أعجبني النقاش الدائر قديماً، والمتجدد حديثاً عن أحكام النقود الورقية، وتأكيد أو نفي جريان الربا فيها. وقبل الخوض في بعض ما يتعلق بالأمر؛ لا بد أن أؤكد على أن أسئلة كثيرة معطوفةً على أحكام النقود تدور في أذهان الناس مثل: البيوع الإلكترونية التي تتم ولا تُرى ما حكمها؟ فلا هاءَ بهاء، ولا يداً بيد، ولا مثلاً بمثل، ولا سواءً بسواء. البنوك الإسلامية هل هي الأنموذج المطلوب دينياً؟

ما حكم التضخم الذي تطير وتهبط فيه العملة ما بين الإشراق والغروب؟ ما حكم تعديل ما هو في ذمة من أقرضناه في حال التضخم؟ ـ المئة ريال عام 1423 اختلفت عن مثيلتها عام 1432ـ . ما حكم العقود المبرمة بعملة دولة سقطت؟ وغير ذلك.. أسئلة كثيرة، ومع الأسف أو بدونه الأجوبة كثيرة.

لا شك أن كل مسألة مالية ـ وغير مالية ـ نحتاج في معالجتها إلى تشخيص وتوصيف وتصوير؛ فإن "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره" ـ غالب الخلافات الفقهية نابعة عن اختلاف تشخيص وتصور الفقهاء ـ وبعد ذلك تأتي مرحلة التكييف والمعالجة الفقهية؛ وهي مسألة صعبة لأن بعض الحوادث لن نجد فيها نصاً صريحاً من الكتاب أو السنة، أو حتى من أقوال المتقدمين. وحينها تبدأ مرحلة القياس على ما سبق من وقائع، مع تجنب الشبه والموانع، ووضع الضوابط اللازمة. وإذا ما تعسر القياس بحثنا عن المصالح والمقاصد الكلية والجزئية؛ المُحكَمة والمحكَّمة.

وعوداً على أول المقال؛ وأقصد ما يتعلق بالنقود الورقية ـ أول محاولة حقيقية لإصدار نقود بنكنوت تمت في السويد عام 1070 = 1660 ـ فقد حكم الفقهاء بجواز طبعها واستعمالها بشرط عام هو عدم إلحاق الضرر بالناس، فالفوضى النقدية منبوذة بدون أي جدال.

أما ما يخص إشكالية جريان الربا في النقود الورقية أو عدمه، فإن الفقهاء وحتى الآن لم ينهوا نقاشهم فيها، بسبب تعذر اقتناع الفقهاء بآراء بعضهم البعض، لاسيما أن النص الصريح غائب، والإجماع القاطع غير متوفر، كما أوضح ذلك فضيلة شيخنا الشيخ عبدالله بن بيه في كتابه (مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات) ص: 226، وملخص كلامه هو: "قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية..".

فريق كبير ينفي الربوية، ولهم حيثياتهم المساعدة على هذا الرأي، إذ النص الصريح مفقود، وثمن الأوراق النقدية معرض للتأرجح والزوال.

ومنهم الإمام النووي الذي قال في شرحه على كتاب المهذب للإمام الشيرازي، المسمى بالمجموع 9/494: "إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها، هذا هو الصحيح المنصوص، وبه قطع المصنف والجمهور". وفريق يؤكد على الربوية، إذ الشريعة جاءت لمصالح العباد، ونظير الحرام حرام، وأن النقود لها وظيفة، وليس لها حد شرعي، فما قام بنفس الوظيفة التي يقوم بها الدينار والدرهم أخذ نفس الأحكام.

أخيراً.. قد يسأل سائل عن الغرض من هذا الطرح، وجوابي عن سؤاله هو أني أريد إنصاف أقوال العلماء، وأن نتصف بإنصافهم، ونذكر جميع أقوالهم، ولا نغمط قولاً أو مذهباً، حتى لو لم ننتصر للقول الآخر. غير غافلٍ عن قول الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ :".. ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه.." ـ رواه البخاري ـ وقوله: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" ـ رواه مسلم ـ مما يعني أن الشبهة قد تكون مكروهة، وقد تكون حراما.