أشرت في المقال الماضي إلى أن الازدواجية تؤدي إلى ظهور الكثير من الأقنعة. فالمجتمعات غير المتصالحة مع نفسها تتوهم الطهر قبل أن تدّعيه، فالخرافة القائلة بأن هناك مجتمعا فاضلا بشكل مطلق، وخال من الأخطاء والآثام، ما زالت تدور في أذهان كثير من الأفراد في المجتمعات العربية. إلا أن الظروف التاريخية التي شهدها العالم العربي منذ عقود مضت تظهر أن الحقائق صعب تجاهلها، وبالتالي من الصعب تجاهل تأثير الثقافات والتقدم الحضاري المتمثل في التقنيات الحديثة، وكأن الأمر أزال حاجزاً نفسياً ومعنوياً ومادياً بين الشرق والغرب لتدخل منطقة العالم العربي والشرق الأوسط في مرحلة جديدة كان عمادها التفكير في الحضارة؛ فما كان ممنوعاً أصبح مشاعاً، وما كان غائباً مغيَّباً أصبح حاضراً، وما كان مسكوتاً عنه أصبح متداولاً وبقوة.

لقد كانت منطقتنا طوال تاريخها تعاني من الانعزال الطبيعي جغرافياً واجتماعياً وثقافياً، على الرغم من اعتراض بعض الباحثين في التاريخ على هذا الأمر، مستندين إلى الكشوف التاريخية والآثار في بعض المناطق التي تم كشف النقاب عنها في الجزيرة العربية، وهذا ما يطرح سؤالاً: هل يمكن المقارنة بين هذه المنطقة ومنطقة آسيا الصغرى على سبيل المثال؟ أظن أن الفرق شاسع، وما زالت الكشوف التاريخية تعطي المزيد من الأهمية لكثير من المناطق في العالم، وإذا أردنا إلى إثبات عدم صحة هذه العزلة علينا أن نتحرى من خلال المزيد من البحوث والاكتشافات العلمية.

قبل مئة عام، حيث نبتت أولى مراحل التكوين السياسي والاجتماعي تحت لواء دولة واحدة في القرن الماضي كانت منطقة شبه الجزيرة العربية أيضاً معزولة قياساً بمصر والشام مثلاً، فقد عاشت المنطقة العزلة بمعنييها الحقيقي والمجازي، نتيجة ظروفها التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية، وهذا ما يجعلني أطرح سؤالاً آخر: هل يصح لمجتمعنا أن يستمر اليوم بهذه العزلة وينطوي على نفسه، على اعتبار أنه أفضل المجتمعات وأنه خال من العيوب تماماً؟

أظن أن مثل هذا التصرف يعيدنا إلى أزمنة غابرة، حيث لا تواصل ولا اتصال بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا نادراً، بحسب ما تتيحه الظروف التاريخية، غير أن الأمر تغير الآن وأصبحنا متأثرين رغماً عنا بهذا العالم من حولنا، ولا أعرف متى يحين الوقت الذي نكون فيه مؤثرين وصانعين للحضارة أو على الأقل مشاركين في صنع الحضارة الإنسانية التي تقترب من الهرم البشري الذي ستكون فيه جميع المجتمعات كأسنان المشط المنكسرة، فمن بقي هو الأقوى وهو المؤثر ومن انكسر هو الضعيف والمتأثر والعاجز عن صنع أي شيء سوى الاستهلاك.

فالصدمة الحضارية أحدثت عند بعض الأفراد لوثة فكرية فبدوا رافضين لكل ما من شأنه رفعتهم ورقيهم وتحسين وضعهم الإنساني قبل كل شيء، وخاصة أن الحياة جميلة ويحق لنا أن نعيشها بكل لحظاتها، ونستمتع بجمالها وتكوينها، وحين يختفي الشعور بجمالها تصبح: لا شيء. أحياناً يتمسك الإنسان برداء قديم ولا يريد أن يخلعه، لأنه ربما مرتبط فيه معنوياً أكثر من ارتباطه المادي فيه، ولكنه حينما يجرب رداء جديداً يجد أنه كان مبالغاً ومخطئاً بتمسكه بالقديم ورفضه للجديد، هذا ما يحدث بالضبط في ثقافتنا العربية، إمساك بالتقاليد الثقافية لمجرد وجودها، لا لأنها صالحة للزمان والمكان، فالأماكن والأزمنة تتغير وتتبدل، وحين لا يتكيّف الإنسان مع أي واقع جديد، فإن مصيره إلى عدم التصالح مع ذاته قبل عدم تصالحه مع ثقافته.

مجتمعاتنا العربية تجرب الجيد لتجد أنها أجمل وأفضل وأكثر إنسانية بالجديد، وذلك ما فرضه الظرف التاريخي الحديث الذي جعل العالم أكثر من "قرية كونية" كما هو التعبير الشائع، جعل العالم خيوطا متشابكة وخطوطا متداخلة فيها الكثير من الخيارات، ومن يدخل مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف سبل التقنية الحديثة للتواصل يقتنع بأننا ما فقدنا الشيء كنا نتوهم أننا نفتقده من عادات وعقائد وتقاليد وقيم، بل إن الذي حدث هو التغيير - والتغيير حتمية كونية بطبيعة الحال - ومن خلاله يحدث التفاؤل؛ بوجود مجتمع متصالح مع نفسه لا يؤمن بارتداء الأقنعة التي مارس ارتداءها طوال أزمنة ماضية، نتيجة لوجود ازدواجية كبيرة في التفكير والواقع أو التنظير والتطبيق.

إلا أن ما يسوء، هو أن الواقع مختلف تماماً عما يسمى الواقع الافتراضي، على الرغم من وجود أفراد تتقلص لديهم نسبة الازدواجية إلى مستويات ضئيلة، إلا أن الغالبية تحكمهم الأعراف الاجتماعية، وحينما أقول الأعراف فإنها في كثير من الأحوال قد لا يكون لها علاقة بالدين. فعلى سبيل المثال لدينا قوانين وأنظمة وحقوق للإنسان فيها الكثير من العبارات الجميلة التي تدعم صون حقوق الإنسانية في مجملها، إلا أننا حين نرى الواقع نجد الكثير من القضايا التي تدل على اختلاف النظري عن العملي أو ربما الواقع والواقع الافتراضي أيضاً، إذ تبرز قضايا إلى السطح يفترض أن ينتهي عهدها إلى غير رجعة كقضايا التفريق بين الزوجين بدعوى (عدم تكافؤ النسب) سواء لأسباب قبلية أو طائفية أو أسرية، على الرغم من أن من أبسط حقوق الإنسان في كل الأديان حريته في اختيار شريك حياته؛ فحياته هذه - مع الأسف - لا تكون ملكه في ظل عدم حرية واستقلالية الفرد، بل تكون ملكا الآخرين الذين تدفعهم ازدواجية الثقافة إلى عدم التصالح فيما بينهم وقبل ذلك ربما عدم التصالح مع أنفسهم.

وبذلك تصبح ازدواجية نتيجة لا سبب، أي أنها في الأساس نتيجة لثقافة مزدوجة ومجتمعات مزدوجة برمتها، أصبحت كالمواليد الساميين تحتاج إلى فصل دقيق بين القيم وتطبيقاتها، إلى أن يوافق التنظير التطبيق بشكل اجتماعي لا فردي وهذا مرهون أولاً بالإيمان بوجود الإنسان والاقتناع بحقوقه.