كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أزمة المواصلات في السعودية، وكان الحديث متركزاً على قضية المرأة تحديداً معها في ظل عدم السماح لها بقيادة السيارة، وبالرغم من أهمية ذلك، إلا أنه يتحدث عن جزء واحد فقط من الأزمة. فحتى لو سُمح للمرأة بالقيادة عاجلاً أو آجلاً، فإن ذلك سيحل مشكلة شرائح محدودة من السكان فحسب، ومازالت الحاجة ملحة لتوفير مواصلات عامة داخل المدن من حافلات وعربات الأنفاق والقطارات السريعة وغيرها لتغطية حاجات الفئات المتنوعة من الرجال والنساء والزوار والمسنين وغيرهم ممن لا تعتبر قيادة السيارة بالنسبة لهم خياراً ممكناً. ويبقى جانب آخر من قضية المواصلات في الداخل لا يتم التطرق إليه بالقدر الكافي، وأعني بذلك المواصلات بين المدن والمناطق المختلفة في دولة كبيرة المساحة ومترامية الأطراف مثل السعودية.

لم أكن لأشعر بفداحة المشكلة قبل أن انتقل للعيش في المنطقة الشرقية، فتنقلي الداخلي كان مقتصراً على مدن المنطقة الغربية، وكلها مدن لا يصعب الوصول إليها بالسيارة أو حتى بعربات الأجرة أو حافلات النقل الجماعي انطلاقاً من مدينتي جدة، لكن حين نتحدث عن السفر من جدة إلى الرياض أو الخبر فإن الوضع يختلف، ويصبح الخيارالأكثر واقعية للكثيرين هو السفر جواً، مما يفتح الباب للحديث عن الطيران الداخلي.

بالرغم من أنني سافرت مع أكثر من عشرين شركة طيران عالمية، فإن الخطوط السعودية بلا مجاملة تظل من الخطوط القليلة الأثيرة لدي. يريحني جداً أنها لا تقدم المشروبات الروحية بشكل قاطع على رحلاتها، ولأنها منحتني تجربة الصلاة قائمة وأنا معلقة بين السماء والأرض، ولأن طعامها هو الأفضل من بين كل الشركات التي جربتها، ولأن ملاحيها غالباً ما عاملوني باحترام طوال سنوات دراستي في الخارج حيث كنت أستخدمها أكثر من مرة في السنة من لندن إلى جدة. هذه تجربتي الشخصية مع الخطوط في رحلاتها الدولية، وربما حصلت بعض المواقف المزعجة في بعض الرحلات، لكن الصورة بمجملها كانت إيجابية.

لكن تلك الصورة الإيجابية تبدلت كثيراً حين بدأت استخدم الرحلات الداخلية مضطرة لعدم وجود بديل آخر، فابتدأت هناك أزمة مقاعد مزمنة! سواء كنت تريد الحجز على أغلى أو أرخص تذكرة، وسواء كنت تسافر وقت الدراسة والامتحانات، أو في الإجازة الصيفية، أو في رمضان، أو حتى بعد العيد، يأتيك الجواب دائماً أنه لا توجد مقاعد شاغرة! حتى حين تحجز قبل الموعد بأكثر من شهر بالكاد تجد مقعداً، ثم إذا طرأ تغيير طفيف في خطتك ليوم أو يومين، فستجد أن أقرب موعد يُعطى لك هو بعد أسبوع أو عشرة أيام كاملة. وإذا كان هذا لا يناسبك فليس أمامك إلا أن تذهب للمطار وتسجل على لائحة الانتظار على رحلات اليوم في انتظار الفرج.

والتعامل مع مكاتب الخطوط وموظفيها في المطارات السعودية تحديداً ليست من الأمور التي يتطلع لها المرء، فهناك حالة من الفوضى العارمة والصياح وعدم احترام أسبقية القدوم والمجاملات للمعارف، وغيرها من الأمور التي تتسبب في مشكلات وشجارات لفظية مرعبة من حين لآخر، سواء كانت الوجهة داخلية أو خارجية.

وفي المطار سيكرر عليك موظف الخطوط المتأفف بأنه لا توجد إمكانية لمجرد وضع اسمك على أي من رحلات اليوم التي قد تزيد عن ثمان رحلات! وبعد مناورات قد تصل حد المناوشات قد تجد بطاقة يتيمة في انتظارك، وليس من الغريب أن تسافر أنت على رحلة فيما يسافر زميلك أو زوجتك على رحلات أخرى في نفس اليوم، لأنه حسب موظف الخطوط: "والله العظيم ما في إمكانية"!

ستأخذ بطاقة الصعود وتصعد للطائرة وتجلس في مقعدك بامتنان، وحين يغلق المضيف باب الطائرة نهائياً ستنظر للكرسي الفارغ بجانبك، ثم لذلك الفارغ أمامك، وتطرح سؤال المليون: لمن هذه المقاعد الفارغة إذن؟ وكيف تركوني أتوسل من أجل مقعد واحد في حين أن عدد الكراسي الشاغرة يكفي عائلتي ومعنا الجيران؟!

وبعد غلق الباب ستبدأ معاناة الركاب والملاحين مع قضية "الفصل بين الجنسين"، ونبدأ في لعب لعبة الكراسي، وقد تجد نفسك قد تنقلت بين عدة مقاعد! فإذا كانت "السعودية" تدرك جيداً عادات وتقاليد البلاد، وتعرف أن جلوس المرأة بجانب رجل أجنبي عنها فكرة غير مقبولة للغالبية، أفلا يمكن أن يتم حل هذه المشكلة على الأرض عن طريق برنامج حاسوبي يصدر بطاقات الصعود آخذاً بالحسبان "جنس" الركاب؟

بالطبع قد تكون هناك حالات يستحيل فيها تحقيق هذه المعادلة كنتيجة طبيعية لنسبة الرجال والنساء على متن الطائرة، لكن ألا يستحق الأمر شيئاً من المحاولة بدلاً من التأخير والارتباك اللذين ينتجان عن محاولة حل هذه المشكلات لاحقاً داخل الطائرة؟

وبعيداً عن الخطوط السعودية، لماذا يظل السفر جواً الخيار شبه الوحيد فيما يتعلق بالسفر داخلياً بين المدن البعيدة؟ لماذا ليس لدينا حتى الآن شبكة للسكك الحديدية الممتازة تربط شرق البلاد بغربها وشمالها بجنوبها؟ لا أذكر أنني استخدمت الطائرة في رحلاتي داخل المملكة المتحدة سوى مرتين فقط! في حين كنت أتنقل بين مدن بريطانيا بالقطارات أو الحافلات السياحية بكل يسر، في رحلات قد تستغرق بعضها نصف ساعة وأخرى خمس ساعات. وسافرت من لندن إلى كل من هولندا وبلجيكا وفرنسا بالقطارات بمنتهى السرعة والسهولة وبتكلفة منخفضة نسبياً.

المواصلات الداخلية من أهم أركان البنى التحتية ومن أهم ركائز التنمية، كيف نريد من الطلبة بأن يدرسوا في جامعات خارج مدنهم ومناطقهم ونحث الشباب على أن يقبلوا بوظائف بعيدة عن بيوت عائلاتهم إذا كنا لا نستطيع أن نضمن لهم القدرة على لم شملهم بمن يحبون بسهولة وبتكلفة معقوله؟ كيف نريد أن نحول بلادنا لبلد سياحي وتجاري من الدرجة الأولى، والمواطن قبل السائح والزائر يعاني أشد المعاناة في عملية التنقل هذه بين مدينة وأخرى؟

لا أعرف على من تقع المسؤولية هنا؟! على وزارة المواصلات التي تبدو متأخرة نصف قرن عن العالم؟ أم عن رجال الأعمال الذين لا يستثمرون في هذا القطاع الحيوي في حين يتنافسون لبناء أطول برج وأكبر مركز تجاري؟ كل الذي أعرفه أن مصالحي الشخصية متعطلة - حتى لحظة كتابة هذه السطور- لأنني أعجز عن إيجاد مقعد!