الإصلاح حركة حياة دافقة بالروح، وكلما قصر الناس في الإصلاح كلما حبسوا هذه الروح عن الجسد الحي، والكلمة هي الجزء الضروري للإصلاح، ولقد كانت دعوة الأنبياء كلمة، والفكرة النافعة كلمة، والفتنة كلمة، وبداية الحرب كلمة، والسلم كلمة
وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
غير أن هناك فرق دقيق بين الكلمة المصلحة التي تنطلق من العزائم والنوايا الصادقة، وبين الكلمة المغرضة التي تتلبس بلبوس الإصلاح ولها مآرب خفية تأتي على خلاف المقصود من ظاهرها .
إن اي أمة من الأمم تتخاذل عن الكلمة المصلحة هي أمة تسعى إلى حتفها بنفسها وقد حكمت على ذاتها بالفناء والاضمحلال، إلا أن هناك فرقاً بين خطاب الإصلاح وبين خطاب التهييج، فخطاب الإصلاح سواء كان متوجهاً إلى فرد أو مؤسسة أو دولة هو خطاب علمي هادئ، يتلمس مواضع الخلل ويقدم الحلول مع عناية باللفظ الذي يحقق المقصود من الخطاب، بينما خطاب التهيبج هو خطاب غوغائي، يرتكز على إثارة العواطف وتأجيجها، وإلهاب المشاعر لتخرج من هدوئها وسمتها إلى حالة انفعالية انتقامية، لتتحول الكلمات إلى قنابل موقوتة تتنظر ساعة الانفجار.
كما أن خطاب الإصلاح هو خطاب منصف، لا يرتكز في حركته على إبراز العيوب وتضخيمها والتركيز على الجوانب السلبية ومحاولة تعميمها لتكون هي الأصل؛ كما يفعل خطاب التهييج الذي يعتمد على " معارضة مستمرة " لا تنظر إلا بعين عوراء معتمدة على التشويه والاستخفاف والحط من أقدار الآخرين متخذة ذلك سبيلاً إلى تحقيق المآرب وتكثير الأتباع.
إن خطاب الإصلاح يقوم على الانتماء للجماعة، غير متحيز إلى فئة ضد فئة، أو مستقوياً بالبعيد على القريب، أو متخذاً الأخطاء سبيلاً إلى سحق الواقع وتشويه التاريخ، يسر إذا رأى بادرة تغيير في المجتمع، معززاً كل حركة إيجابية رسمية أو شعبية.
إن خطاب الإصلاح هو الذي يقوم على مبدأ العدل حتى مع الخصوم، ولا يخفي الحقائق لتمرير رؤيته الخاصة متمثلاً قول الله تعالى: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ) آخذاً مبدأ القرآن والسنة في إنصاف الخصوم وعدم جحدهم ميزاتهم مهما بلغت درجة العداء (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما).
إن منطلق المعارضة في خطاب التهييج تجعله متآلباً على طول الطريق، وحزب معارضة همه تشويه المنجزات مهما كان مستواها، وهذا الأمر لم يعرفه المسلمون في تاريخهم بل هو من إفرازات الحزبية السياسية ونظمها الحديثة التي تشطر المجتمع لتجعل بعضه متحفزاً للانقضاض على بعض، وهذا يجعل خطاب التهييج راصداً وبدقة متناهية وعين باصرة ومستمرة للأخطاء وإشاعتها دون مراعاة لظروف الزمان والمكان، غير آبه بأثر الكلمة على حالة السلم الاجتماعي والأمن وهوالأمر الذي أدركه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زمن مبكر فقال : (لئن تحدث القوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). سواء كان هذا الحديث حقاً أو باطلاً وهذا الخطأ متيقناً أو مظنوناً، لكن خطاب التهييج همه إذاعة الأخبار وعدم التثبت وإشاعة الرواية قبل التحقق والتبين .
إن الرؤية العاقلة التي تجعل الوعي بالمشكلات يسبق خطاب الإصلاح يحفظ المسيرة من خلال إدراك أن مهمة الإصلاح ليست مهمة مشاعة يركبها من لا يحسنها، بل هي قضية علم وبصيرة، يضطلع بها من عنده القدرة على الفهم والاستنباط كما قال تعالى : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) بينما يرتكز خطاب التهييج على إقحام الجميع بلا تمييز، متخذاً من الصغار وحدثاء التجربة قائمين بالمهمات الكبرى، فتختلف المواقع فيأخذ الصغار دور الكبار ويقحمون في مسائل لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويجعلون وقوداً لمعارك لا يستبصرون طريقها ولا أهدافها وينقلون من متطلباتهم العمرية والمرحلية وبنائهم العلمي والنفسي والاجتماعي ليتحولوا إلى حالة هيجان واضطراب، وقد رأينا مغبة هذا الخطاب حين جعل شبابنا وقوداً لعمليات الهدم والتدمير والتكفير والخروج على جماعة المسلمين .
إننا وكما ننكر على أولئك الواقفين أمام هم الإصلاح وخطابه، أولئك الذين يتسترون على الأخطاء ويبررون القصور، مقدمين مصالحهم الخاصة على المصالح العامة، ننكر كذلك على الذين يتخذون من خطاب الإصلاح سبيلاً إلى تحقيق الأجندات الخاصة حتى لو كانت على حساب المجتمع وأمنه واستقراره.