الغريزة مفلوتة من عقالها، هائجة في الشارع. تبطش دون حسابٍ ولا رادع. تسدّ الأفق بفعلها الهمجي ويتناثر الدم يغطي العيون والشاشات. لحظة الارتواء بعيدة. عودة الوحش إلى الحظيرة اليأسُ أدنى منها وأيسر منالا. لن تهدأ الغريزة، ولن يؤوب الوحش حتى تفرغ الأرض من ساكنيها أو يبتلعهم حوتُ الخوف. كما ابتلع من كان قبلهم، فصحّتْ الوصفة الجائرة؛ تجلجل في أسماع جمهرة الناجين: الوحشُ بانتظاركم، تحاشوا إغضابه، وتحسسوا رؤوسكم قبل أن تدور فكرة فيها.

ظنّ الدكتاتورأن الدرس بلغ مرحلة الاستيعاب، وآنَ له أن يمدّ رجليه وأن يتمطّى هو وأتباعه. القفل في مكانه، والمفتاح بيده، والفوّهة الخشنة قريبة من الأجساد كلما ضرب الضوء الذاكرةَ للقيامة من النسيان.

توهّمَ الدكتاتورأن شمسه أبديّة، وأن الكرسي لن يبرح مكانه يزهر بالقادمين من صلبه. سكنتْه الطمأنينة، بحث عن الخوف لم يجده؛ فقد تكفّل الأتباع بتصديره للناس. ما أشدّ غباء الدكتاتورعندما لا يخاف.

دورة عارمة من السُّكر. السلطة المطلقة نهبتْ الأرض ظهراً وبطناً. الحاكم بأمره لا يرى أحدا له نفسٌ بشريّة. محض مخلوقات زاحفة يمعن في إذلالها؛ حشرات.. جرذان.. جراثيم.. أحكم تاج العزّة على رأسه. العزّة تخصّه وحده. أصبحت المرايا لا تعكس إلا صورته. صار فوق التاريخ.. فوق الناس. الوطن هو، وهو الوطن. زواج إكراه لا يصحّ ولا يقع. أرادَ للمرآة أن تقول فقالت. لم تعترض.. والشفاه المخيطة ليس لها إلا أن تحمحم، والمترجمون يخونون فتغيب الحمحمة في هدير التصفيق.

عينُ الثقة تضحي حديدا. لا ترفّ، ولا تدمع، ولا تتراجع. كبرياء البصر لم تنتبه، ولا يعنيها التحقّق من السراب. الكرسي ثابت، والأرض صلبة، وحفلات البخور لا تنقطع.

الشجرة الواقفة. الشجرة الجافة، مادتْ من تحتها الأرض، وتفجّرتْ الينابيع تسقيها. الماء أسود ومرّ. هذا ما تحتاجه، مرّا وأسود؛ يسرّع الخضرة إليها ويركض بها إلى الإعصار. تفتح بابه وتلتحم به.

الشجرةُ غادرها الجمود. اندلعت الأغصان، وتدلّى الثمر الشوكيّ ينصبّ في الحلوق ترياقاً يوقظ ويَشفِي من أرهقهُ الانتظار وبرّحت به الغربةُ في دياره.

يركض إلى الشارع، صلصلة الأغلال لا تعوقه.

يحكّها على الأسفلت، يخلعها ومعها نافورة الدم.

الدكتاتور فتح الحظيرة عن آخرها، وسرّح وحوشه الضّارية.

الخائف أمام الوحش. لم يرتدع، وخطوة الخوف إلى الوراء باتت تاريخا.

الخائف تحرّر من خوفه.

الحرُّ الآن يتطهّر من خوفه.