النجاح الاستثنائي الوحيد الذي استطاعه شيخ مشايخ القاعدة، أسامة بن لادن ليس إلا أنه ترك هذا العالم بعد موته مختلفاً عنه قبل ولادته. غادرنا وقد ترك ملايين المسلمين تحت محاكم التفتيش مثلما غادرنا وهو بزعمه – المجاهد – ولكنه أول قائد معركة في تاريخ هذا الجهاد يقضي سواد معركته طريداً متخفياً حد الهروب إلى الغرفة الأخيرة في نزالات هذه المعركة. من قبله نشأنا على الموروث المدون الذي يعتاد فيه القائد أن يكون في رأس الصف، وحاسر الرأس ما بين الصفين المتقابلين وهكذا درسنا في مناهج المدرسة. أول الدروس التي يجب على المرء أن يدركها في تاريخ القضايا هو أن يعرف بالضبط مكان صاحب القضية. اختفى أسامة بن لادن لا لأنه انتهى واختفى من الوجود، بل لأنه انتهى بسبب عشرات الدروس التي تعلمها المسلمون من قصته وهو حي يرزق. أول الدروس أنه أثار فينا روح الجدل والشك وأذكى في المجتمع الإسلامي ثورة تحليل الخطاب وفورة نقد الممارسة. لم يعد هذا المجتمع يأخذ الأشياء كما هي، بل ينظر إلى ما تكون أو ستكون. بعد شهره السبتمبري الشهير سقطت كل أوراق التوت. بدأ المجتمع يقلب كل الصفحات ويتأمل من جديد كل الخطب والجمل. بعد شهره الشهير بدأ المجتمع يقرأ مع أطفاله مناهج المدرسة خوفاً من أن يكون طفل المدرسة، غدا – الجندي المجهول – الذي يقاتل في جهاد بلا راية ويختفي عن الأنظار كي يظهر في ظهر حاوية متفجرة ويزعم الجهاد ولكن عبر رسالة صوتية مجهولة المصدر. بعد شهره الشهير بات المجتمع يرفع أسئلة الشك عن هوية كل معسكر وعما بين الكلمات والسطور في كل منبر. بعد شهر القاعدة السبتمبري الشهير ارتفعت أسئلة الوعي حول دوائر الشك وبات المجتمع أكثر حذراً لكل ريال يذهب إلى صندوق تحت غطاء العمل الخيري دون أن نفتح كل هذه الصناديق المغلقة. بعد سبتمبر ارتفعت دوائر الوعي وأصبح المجتمع يطرح أسئلة الحوار ويرفع دائرة الأسئلة المحظورة بعد أن كان قبله مجرد آذان ليس لها من دور إلا أن تنصت وتستمع.

والخلاصة، أن الثمن الذي دفعه الشارع العريض في خريطة هذا العالم الإسلامي، وبعد عقد من سبتمبر القاعدة الشهير، كان مكلفاً وباهظا. فمن تحت أنقاض البرجين دخلت أميركا لاحتلال شعبين. وعدا عن أن ما يقرب من 12% من ضحايا – مانهاتن – كانوا من المسلمين، فإن الحقائق اللاحقة تبرهن أن الإسلام وأهله كانوا بالتحديد هدف هذا الإرهاب القاعدي ومنطلق قاعدته. وخلال عقد من الزمن، تشير الإحصاءات إلى أن تنظيم القاعدة قد تبنى ما يقارب 170 عملية ناجحة، وباستثناء مترو لندن ومحطة قطارات مدريد فإن كل العمليات الأخرى لتنظيم القاعدة جرت في المدن الإسلامية من إندونيسيا حتى الدار البيضاء مروراً بالرياض ومكة المكرمة والدوحة وإسطنبول، على حين استأثر مثلث باكستان وأفغانستان والعراق بالنصيب الأعلى من الضحايا الذين فاق عددهم 15 ألف ضحية حتى اللحظة. خريطة الاستهداف وحدها تبرهن أن العدد المعلن في أدبيات تنظيم القاعدة (الغرب في هذه الحالة) لم يستأثر سوى بأقل من نصف في المئة من مجمل العمليات الحقيقية لتنظيم القاعدة في عقد من الزمن. لم يستطع هذا الغرب أن يحمي أراضيه ومواطنيه فحسب، بل أيضاً وجد من أدبيات القاعدة ذريعة تلقائية لمصادرة أبسط الحقوق المدنية للأقليات الإسلامية في مدن الغرب ولسنّ القوانين التي تقيد حرية الاعتقاد والعمل الديني بدعوى مكافحة الإرهاب مثل قانون الحجاب في فرنسا والمآذن في سويسرا وحرية التعبير في ثلاث دول إسكندنافية حتى اللحظة. وفي الكف الأخرى، فإن ذات الأرقام تشير بوضوح إلى أن كل أربعة من خمسة من العابرين للمطارات الغربية الذين يخضعون للتفتيش هم من المسلمين وأن تسعة من كل عشرة يتقدمون للسفارات الغربية للحصول على تأشيرة ثم ترفض طلباتهم هم من أبناء هذه الديانة أيضاً. والنهاية أن العقد الأخير من الزمن مر بمخاض اجتماعي هائل، ارتفعت فيه دائرة العنف وفي المقابل اتسعت كل دوائر الوعي. دفع فيه المجتمع ضرائب مذهلة من الأمن المادي ولكنه في المقابل بات أكثر تشبثاً بحقوقه من الأمن الفكري. عقد عبر فيه المجتمع عنق الزجاجة وإن بتكلفة باهظة.