ارتحل عن هذه الدنيا صاحب الخلق النبيل والمسلك القويم والفكر المستنير أستاذنا محمد صلاح الدين الدندراوي ليلة التاسع والعشرين من رمضان، والناس مقبلون على الخير في بيوت الله، يترقبون ختم القرآن في هذه الليلة المباركة.. صعدت روحه إلى بارئها في سكينة وهدوء حتى ظن المحيطون به أنه أخلد إلى النوم، فلا صوت أو حركة تزعج أو تقلق من حوله من الأحباب وكأن الودود الرحيم أراد أن يختم حياته بالهدوء واللطف والرقة المعهودة عنه.

وأحمد الله الذي وفق لأداء بعض ما توجبه الصداقة والوفاء، إذ رأيته وتحدثت إليه قبل رحيله بأقل من ثماني ساعات وشاركت في الصلاة على جثمانه بالمسجد الحرام وحمله إلى جنة المعلاة. كنت في المدينة المنورة أواخر الشهر الكريم وعلمت بعودة أستاذنا من رحلة العلاج في أمريكا مساء السبت 27 رمضان فرجعت إلى جدة لزيارته ليلاً ثم العودة وحين وصولي جدة قرابة الرابعة فجراً علمت من صهره الأخ صفوان باجنيد أن الوقت غير ملائم لأنه أخلد إلى الراحة بعد يوم مرهق قضاه في المستشفى ولكن يمكنني أن أزوره في أي وقت بعد صلاة الظهر.. وفي الواحدة والنصف من ظهر يوم الأحد 28 رمضان اتصلت بزوجته السيدة الفاضلة صفية باجنيد فرحبت بي وأخبرتني أنهم في قسم الطوارئ في المركز الطبي الدولي ويمكن اللحاق بهم لرؤية أبي عمرو.. وحين دخلت عليه رأيته شاحباً مرهقاً لكن ذلك لم يحل دون محاولته إبداء الفرحة والانشراح للقاء، كما عهدته.. نقلت له سلام ودعاء الأحباب، وما أكثرهم حتى ممن لا يعرفه إلا من خلال "الفلك يدور". حاول أن يتكلم لكنه لم يستطع فاكتفى بهز الرأس ومشروع ابتسامة ناقصة مع بريق عينيه الذي لم يفقد القدرة على نقل صدق مشاعره.. ودعته حوالي الثانية والنصف ظهراً على أمل اللقاء بعد العيد لكن إرادة الله قضت أن تصعد روحه إلى بارئها في هذه الليلة المباركة ليلة التاسع والعشرين من رمضان والناس رافعون أكفهم إلى البارئ أن يغفر لأحياء المسلمين وأن يرحم أمواتهم، وصعدت روحه تزفها سحائب الرجاء والتضرع إلى خالقها.. فاللهم ارحم الصديق الوفي والأستاذ الذي يعلم بسلوكه وفكره ومنهج حياته وأسلوب تعامله مع الناس بأكثر مما يعلم بالكلام والنصائح.

الأستاذ صلاح الدين رجل نبيل، جمع من المحامد والخصال ما يندر اجتماعه في إنسان واحد فهو المتواضع المتواري عن الزحام على المجالس وهو القوي الصلب في الحق، المقاتل العنيد في مواقف الرجولة والشهامة. يجمع عارفوه على أنه صاحب خلق عظيم زانه عقل راجح وهذبته التجارب فاكتسب قدرة غير معهودة على جمع الناس من حوله. تراه يتعهد الأصدقاء ويتفقد أحوالهم، ويراعي ظروفهم، يستمع إلى شكواهم ويتفاعل معها ويسعى لإزالة أسبابها لكنه لا يثقل عليهم بما يعانيه ولا يطرح مشاغله ومشاكله على الآخرين مهما كانت قرابتهم أو قربهم.. وقد عرفته في أيام "تكالبت" عليه منغصات الدنيا وتباعد عنه الكثيرون من الأصدقاء والمعارف ولم يبق بالقرب منه إلا الواثقون من صدقه وإخلاصه وسلامة منهجه.. ومع كل تلك "المنغصات" المزعجة وحاجته إلى المساعدة، ظل قويا متماسكا، لا يتبرم بما هو فيه ولا يظهر الضيق أو التوجع من نكران الجميل، بل كان يبادر إلى إظهار التفاؤل والانشراح إذا أحس أن من حوله يستشعرون ما يعتمل في داخله من أوجاع.

كان – رحمه الله – صاحب رؤية واضحة وقناعات راسخة تمثلت في منهج استراتيجي لا تغيبه التفاصيل عن الهدف الكبير وإن اختلفت طرق الوصول إليه.. وهذا الثبات على الهدف مع المرونة العالية، أدى بالبعض إلى اتهامه باللين وعدم مواجهة المواقف بما تتطلبه من صلابة وحزم لكن فات هؤلاء أن ذلك "اللين" لم يكن سوى المهارة في "تقدير المواقف" والاسترشاد بنور بصيرة لا تفقدها ضغوط الواقع ملامح وإشارات الهدف الأساسي.. وقد أدرك عارفو تلك الميزة ولهذا يوكلون له مهمة "إخراجهم" من مأزق تعارض الآراء، فحين يكثر اللغط في التفاصيل تراه صامتاً يفكر في الخروج من "مضيق" الاختلاف وما يلبث أن يطرح فكرة أو يتقدم باقتراح يقبله المختلفون حتى وإن رأى البعض أنه اقتراح لا ينصر موقفاً أو يخذل آخر، لكنه الاقتراح الذي يخرج الجميع من "الورطة". وإذا اطمأن إلى كسر "دائرة الحيرة" تراه يعود إلى خطه الاستراتيجي الذي يتفق مع رؤاه.

كان – رحمه الله – صاحب إيمان لا يتزعزع بضرورة إزالة أسباب الاختلاف بين المسلمين، ولذلك لم تستطع الأحداث الطارئة ولا النزاعات الوقتية أن توقعه في خطأ تغذية الشقاق المذهبي والتنافر الطائفي والنعرات العرقية والدعوات القومية التي تقوم على شق عصا وحدة الأمة. حين اشتعلت نيران الدعوات الطائفية في بداية الثمانينات من القرن الماضي وقف مع ثلة من العقلاء الوطنيين المخلصين لرسالة هذا البلد ولقيادته، المؤمنين بدوره العربي الإسلامي المدركين لخطر الشقاق، من أجل حماية الخط العام الذي يترفع عن الوقوع في حبائل أعداء الأمة وانحرافات الظروف الطارئة.

كان صاحب رأي، يدافع عن أفكاره بوضوح وشجاعة وإصرار، لا يصده عن ذلك خوف من سطوة أو مجاملة لذي مكانة كما لا تدفعه قوة البيان أو الإعجاب بالرأي إلى الخروج عن منهجه المهذب المعتدل. وقد كان صاحب أسلوب جزل مشرق يصدر عن نهر البلاغة النابع من معين القرآن، ولكن لم تغره المتانة والرصانة بالغريب من الألفاظ أو المنغلق من المعاني بل زادتا أفكاره وضوحا وإشراقا وعذوبة وسلاسة.. ويبدو أن الصحافة التي تعشقها مبكراً أسالت عباراته وسهلت تراكيبه دون أن تفقدها رونقها ورشاقتها وفصاحتها .. كان – رحمه الله – معجباً بالأساليب العربية وبيانها ونصاعتها ورشاقتها، يعنى بها ويشجع عليها بأسلوبه وطريقته المهذبة التي تلمح ولا تصرح.. قرأ مرة بعض ما كتبت ويبدو أنه رأى فيه ما يستحق "التشجيع" فإذا به يرسل لي كتاب "دفاع عن البلاغة" لحسن الزيات، رحمه الله.

كان يكتب إلى كبار رجال الدولة والمسؤولين بأسلوب رصين قوي متماسك لا غموض فيه لكنه يلتزم بأدبه الجم، الأدب الراقي الذي لا تختفي فيه الحقيقة ولا تخجل في سطوره القناعة ولا يتلجلج في سطوره المنطق ولا يتعثر في ثناياه البيان ولا تتخاذل بسببه الحجة، بل كانت كتابته من الوضوح والقوة والصدق ما يجعل الرأي أشد وضوحاً والقناعة أكثر بروزاً والمواقف أكثر صرامة.. لا يقف – في الأزمات والمواقف الفاصلة – في منطقة التردد ويكره الأساليب الرمادية بل تأتي أفكاره واضحة بالإيمان وبيانه مشرقا بالصدق ولهذا أكرمه الله بالقبول عند الكثيرين والتقدير لفكره وقلمه.. لهذا كان "محترماً" عند قادة البلاد، يعرفون قدره، ويقدرون إخلاصه ويعرفون صدقه. وهذا الرجل الذي عرف بالتواضع وخفض الصوت والقدرة على الصمت والعزوف عن تصدر المجالس – وهو أهل لها – هو نفسه المقاتل الصلب الذي لا يفتر ولا يمل من نقد الأخطاء ومحاربة الفساد وملاحقة الجرائم والدأب على كشف جرائم الظلم وخطايا الطغاة والظالمين في كل مكان إيمانا بأن الحرية قيمة إنسانية تولد مع الإنسان وليس لإنسان سلبها..

ماذا يكمن أن تقول أسطر محدودة عن هذا الشامخ المتواضع؟ فاللهم ارحم عبدك محمد صلاح الدين الذي كانت حياته درسا عمليا في السلوك الإنساني القويم.