-1 -

كان حزن الشاعر الحداثي السعودي محمد العلي عميقاً حين كفَّ الحوار عن الدوران في فضاء الثمانينات السعودي من القرن الماضي. فاعتبر العلي أن ما حصل هو بمثابة "جفل الخطى" كما قال في قصيدته الشهيرة (بحرنا من حجر، 1988). وهي القصيدة التي وصف فيها الشاعر بحره بالتأجج مثل جواد غاب فارسه، فاستبد به الغيض (النضوب والنقصان)، وقال:

بحرنا يتأجج مثل جواد

غاب فارسه فاستبد به الغيض

بحرنا شاعر لم يزل في المخاض

-2-

ما زال الشاعر والناثر السعودي الحداثي محمد العلي، كما كان قبل عدة عقود، شاعراً وناثراً غير ثرثار، وليس مجانياً يُنشد شعراً للتطريب و (الصهللة). فالعلي الشاعر والناثر لديه الكثير ليقوله لنا، ولديه قضية محورية ورئيسة، هي قضية الحرية، التي أصبحت على رأس قضايا شعراء وكتّاب ومفكري وسياسي الحداثة المعاصرين.

-3-

فالحداثة دعوة شمولية، لا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة. وهي دعوة شمولية كذلك لاكتشاف المجهول. وبالتالي، فإنها ليست قراراً سياسياً، بل هي رد فعل، لا يأتي من الداخل بقدر ما يأتي نتيجة صدام الداخل مع الخارج، ونتيجة للتفاعل الحضاري. كما أن الحداثة وصفٌ لحالة وتركيب المجتمع، بل هي حركة صراع داخل هذا المجتمع. ومن هنا يمكن وصفها على أنها موقف من الإنسان، وأنها منطق جديد لرؤية العالم. وأن الحداثة رؤية تقتحم السائد.

والحداثة مسألة لا تأتي ضمن مشروع ما، بقـدر ما تأتي استجابة للحاجة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.

إن الحداثة استجابة للحياة ومتطلباتها، وضرورات العيش فيها.

-4-

شرط الإبداع عند محمد العلي، أن تكون للمبدع قضية يدافع عنها. وكان "التسامح" اليوم، هو القضية التي يدافع عنها العلي في كتابه "كلمات مائية". وهي قضية أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام، وخاصة في البلدان العربية التي اجتاحتها الثورات الشعبية كتونس ومصر بالدرجة الأولى، والآن ليبيا، التي أصبحت على حافة النصر النهائي والخلاص من حكم الدكتاتور القروسطي، الذي استمر 42 عاماً.

-5-

لقد ربط المناضل الأفريقي العريق نيلسون مانديلا نجاح الثورة العربية في تحقيق أهدافها بإشاعة "روح التسامح والمصالحة". وقال في رسالته (25/7/2011) للثوار العرب في كل مكان، إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي، والبناء فعل إيجابي. وإن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير. وإن الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس يشيرإلى أن معظم الوقت مهدر في سبِّ وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفّي والإقصاء. كما يبدو لمانديلا أن الاتجاه العام، يميل إلى استثناء وعزل كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة. وهذا أمر خاطئ في نظره. وكم تمنّى مانديلا على الثوار، أن يستحضروا الحديث النبوي الشريف: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". ويعملوا به!

-6-

وركَّز مانديلا في رسالته المذكورة للثوار العرب، على أن مرارات الظلم ماثلة. إلا أن استهداف هذا القطاع الواسع من المجتمع، قد يسبب للثورة متاعب خطيرة. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن، والدولة، وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكونوا إجهاضاً للثورة. وهو أهم هدف لهم في هذه المرحلة، التي تتميز عادة بالهشاشة الأمينة، وغياب التوازن.

-7-

وكان قد سبق مانديلا إلى مضمون هذه الدعوة، المفكر التونسي العفيف الأخضر، حين دعا إلى محاربة ما أطلق عليه "حزب الانتقام"، الذي ظهر واضحاً في كل من تونس، ومصر.

ففي مصر مثلاً، انتقلت مصر من حكم "الحزب الوطني" السابق، إلى حكم "حزب الانتقام" اللاحق. وأصبح الشغل الشاغل للإعلام المصري – وربما لمعظم الإعلام العربي – محاكمة الرئيس مبارك، ونجليه، ومعاونيه.

وهل سيُحكم عليهم بالإعدام – ربما أو على الأقل على الرئيس مبارك – أم لا؟ حيث إن قرارالحكم بالإعدام قد صدر في الشارع المصري، قبل التحقيق، وقبل المحاكمة، وربما سيكون في جيوب القضاة، الذين سيحاكِمون هؤلاء، نتيجة لضغط الرأي العام المصري، والشارع المصري، والإعلام المصري، الذي ردد مثل هذه الأحكام صباحاً ومساءً. وهو ما يذكرنا بمحاكمة لويس السادس عشر 1793 ، حين جرت المحاكمة، في مثل هذه الأجواء المشحونة بالانتقام، والتشفّي، والثأر، ورفض المصالحة.

-8-

محمد العلي في كتابه (كلمات مائية) يقول:

"لن تجد كلمة لها دوي وصهيل في هذه الأيام مثل كلمة [تسامح]. فهي تطفو على كل قلم سواء هبَّ أو دبَّ. وعلى كل لسان سواء أفصح أو تلعثم."

ويضيف العلي محذراً من الانزلاق في التسامح، الذي يمكن أن يعتبر مِنَّة من الواحد للآخر. وهنا تكمن سلبية "التسامح" وخطورته:

"إن كلمة التسامح تتضمن كبرياء مضمرة وقناعة يقينية، بأن الآخر على خطأ، وبأننا نمُنُّ عليه حين نسامحه. فكلمة [التسامح] ليس فيها اعتراف بأن الآخر يمكن أن يكون على حق، بل هو على باطل، ونحن نتفضل عليه بأن نسامحه على ضلاله المبين." (ص244) .

وتلك هي معضلة التسامح. بل تلك هي رذيلته، فيما لو تمَّ النظر إلى التسامح على هذا النحو، من الاستعلاء، والمكابرة، وسوء الفهم.