صديقي وزميل المهنة الأكاديمية والصحفية، هو أحد أهم الكتاب الوطنيين صاحب قلم منافس لصوته، أشترك معه في الفكر والرأي وحدة الطرح المبني على شدة الحماس في معالجة العديد من القضايا التي تهم بلادنا، مع الأخذ في الاعتبار بأننا جميعا نهدف بطروحاتنا تحقيق أهداف سامية تعود بالنفع العام للوطن وأبنائه.

والحقيقة لم أكن أرغب أن أعلق على مقالة هذا الصديق العزيز الدكتور علي الموسى يوم الاثنين الماضي 7 شوال 1432 في زاويته الشهيرة (ضمير متصل) بعنوان (أستاذي الدحلان: أبها أم سبها) إلا أن طلبه مني في مقالته الإجابة عن السؤال (لماذا يهرب رأس المال المحلي للاستثمار الأجنبي رغم الفرص المحلية المشروعة ورغم العوائد الآمنة وأكثر من هذا في ظروف آمنة مطمئنة ومستقرة؟) وطلب مني أخي العزيز أن أفند العوائق وأن أشرح الملابسات التي تعترض رجل الأعمال المحلي في استثماره الداخلي.

وحيث إنني أعتبر طلب الدكتور أمرا وليس رجاء فإنني سأحرص كعادتي أن أكون صريحا وشفافا حتى لو انعكس ذلك سلبا على أعمالي وعلاقاتي إلا أن الحقيقة لا بد وأن يعلمها الجميع بأن مناخ الاستثمار في بلادنا للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مناخ غير مشجع أو محفز. وهو موضوع يحتاج إلى دراسة وبحث متعمق إلا أنني سأبدأ بتحليل نقطة مهمة في عالم الاستثمار وهي أن الاستثمارات بصفة عامة دولية ومحلية تبحث عن الأجواء الاستثمارية الملائمة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وكما يقال إن رأس المال جبان لا يعرف المجاملة والعواطف ويبحث عن مصالحه. وأضيف لذلك أن المصلحة الخاصة إذا التقت مع المصلحة العامة فإن الاستثمار في الأوطان هو الأفضل إذا استبعدت المعوقات الطاردة للاستثمار، والاستثمار خارج الأوطان ليس في جميع الحالات هروبا من المعوقات التي تواجهه فيها وإنما هي سياسة من سياسات الاستثمار لتوسعة النشاط وفتح أسواق دوليا ومحاولة الاستفادة من المميزات والاتفاقات الاقتصادية المشتركة واتفاقات الاستثمار مع بعض الدول والمتضمنة إعفاءات جمركية أو إعفاءات ضريبية أو الاستفادة من اتفاقيات مبرمة مع أطراف أو طرف ثالث مثل الاتفاقيات القارية أو الإقليمية للدول المستثمر فيها. وبمراجعة تاريخ الاستثمار الدولي فإن الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية واليابانية والصينية لها تاريخ عريق في خروجها خارج أوطانها لتوسعة أسواق منتجاتها ولحماية حصتها في الأسواق العالمية والأمثلة عديدة منها شركة بروكتور أند قانبل الأمريكية والتي أنشأت أول مصنع لها في المملكة قبل حوالي خمسين عاما وشركة يونيليفر البريطانية ونسله السويسرية وشركات أخرى مستثمرة في المملكة في مجالات البترول والصناعات البتروكيماوية والصناعات الحربية وصناعة الخدمات وغيرها. فالاستثمار خارج الأوطان له أهداف استراتيجية اقتصادية وفي بعض الأحيان تكون له أهداف سياسية واجتماعية. وتشجيعا ودعما للتبادل التجاري والاستثماري بين الدول أنشئت منظمة التجارة العالمية وبدأ الشروع في التخطيط لها قبل خمسين عاما لتحرير التجارة من قيود الجمارك والمعوقات الملازمة لها، ثم تطورت إلى أن وصلت إلى تسهيل الاستثمارات وتحرير الاستثمار من المعوقات.

أما إذا خرجت الاستثمارات الوطنية خارج أوطانها نتيجة المعوقات الاستثمارية ورداءة المناخ الاستثماري في أوطانه، وأقصد بالمناخ الاستقرار السياسي والاقتصادي والأنظمة والقوانين واللوائح الداعمة للاستثمار ومحاربة الفساد والمعوقات التي تواجه الاستثمارات، عندها تسمى بالاستثمارات المهاجرة أو الثروات الهاربة أو الاستثمارات العاقلة التي تبحث عن أمنها واستقرارها. وأقصد بهذا التوصيف استثمارات القطاع الخاص أفرادا أو مؤسسات أو شركات. أما استثمارات الحكومات خارج أوطانها وهي مبالغ ضخمة جدا في بعض الأحيان مثل استثمارات الحكومة السعودية فهنا من الأفضل توجيه السؤال إلى القائمين على إدارة فوائض الدخل الحكومي لمعرفة أسباب استثمارهم خارج الوطن في الوقت الذي يعلنون فيه دائما بأن الاستثمار في المملكة عوائده أفضل وأمنه أقوى وحالة الاستقرار السياسي مطمئنة ومستقرة وهي الأفضل في العالم العربي والإسلامي. وليعذرني أخي الدكتور علي الموسى من الإجابة عن الأسباب الحكومية للاستثمار خارج الوطن ولنوجه أنا وهو السؤال إلى أصحاب القرار.

أما الإجابة عن أسباب هروب الاستثمارات السعودية للخارج وقبول عوائد متدنية في بعض الحالات فإن الأسباب عديدة ومن أهمها عوائق الاستثمار في المملكة وعلى وجه الخصوص للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وكل ما يقال من حوافز ودعم هو نتاج المكنة الإعلامية المصاحبة للأجهزة المعنية بالاستثمار. وللحقيقة فإن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حريص كل الحرص على وطنه وشعبه واقتصاد بلاده وقد لمسنا ذلك في العديد من القرارات والأنظمة واللوائح الداعمة للاستثمار، إلا أن بعضها مازال ينتظر التفعيل على أرض الواقع. وكم من أنظمة جديدة لدعم التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة توقفت أو تعطلت أو تسير ببطء السلحفاة نتيجة المتطلبات الصعبة التحقيق، ولا مجال لسردها. وأجزم بأن أكبر المستفيدين من هذه التسهيلات هم الشركات والمؤسسات الكبيرة أما الشريحة العريضة وعلى وجه الخصوص في المدن والقرى الصغيرة فهم خارج دائرة الاستفادة للضوابط والمعوقات الطاردة للاستثمار. فعلى سبيل المثال يُعلن عن دعم الاستثمارات الصناعية والقروض الاستثمارية ويعاني أبناء المناطق والمدن الصغيرة من عدم وجود مدن صناعية مؤهلة بالبنية الأساسية لقيام مصانع صغيرة ومتوسطة عليها وبالتالي لا تستفيد المناطق والمدن الصغيرة. ويحرم رجال الأعمال فيها من هذه الفرص ويُعلن عن المدن الاقتصادية وتحصل على دعم الحكومة وتُسهل لها جميع الإمكانات وتوجه لها جميع الخدمات ثم يُعطى امتياز بنائها وتشغيلها إلى شركات مستثمرة ومقتصر مؤسسوها على شركات محددة نراها في كل مشروع تنموي وأشخاص محددين نراهم مساهمين في كل مشروع ويحرم صغار رجال الأعمال وتحرم مؤسساتهم وكأن الوطن لا يوجد به رجال أعمال أو مؤسسات غيرهم. ثم يحصلوا على امتياز التطوير ويتاجروا فيه وبالأراضي المخصصة لها ويتحول المشروع إلى استفادة خاصة لهذه الشركات أو تتحول المدن الاقتصادية إلى متاجرة أراض وعشرين في المئة منها مشاريع اقتصادية. ويحمل المطورون في بعض هذه المدن الاقتصادية آلاف الملايين المنفقة في البنية التحتية على المستثمرين فيها أو المشغلين لبعض مشاريعها وعندها تصبح التكلفة على المستفيدين من المواطنين عالية جدا. وأذكر أحد هذه الأمثلة عندما تبنى المطور في إحدى المدن الاقتصادية بناء مدرسة بتكلفة المتر ستة آلاف ريال وطرح تشغيلها لأحد المستثمرين من المواطنين وبتكلفة عالية جدا والذي سيحمل أبناء المقيمين مواطنين وأجانب في هذه المدينة التكلفة العالية لتدريس أبنائهم. والأمثلة عديدة رغم أن المطور حصل على قرض حكومي بفوائد بسيطة كان ينبغي أن ينعكس ذلك على تكلفة الأراضي والخدمات المقدمة.

أما عن الاستثمار في التعليم الجامعي فالأمثلة عديدة ومنها قرار الدولة تأجير أراض حكومية بأسعار رمزية لبناء الجامعات والكليات الأهلية وبعض الأمانات تأخذ تعهدات على الكليات الجامعية بعدم المطالبة بتطبيق قرار مجلس الوزراء الخاص بتخصيص أراض بأسعار رمزية لفترة التشغيل. والأمثلة عديدة لا مكان لذكرها وتحتاج إلى سلسلة مقالات عن معوقات الاستثمار في المملكة.

أخي العزيز الدكتور علي الموسى أرجو معذرتي في اختصاري للإجابة تقديرا للمساحة المخصصة لي. وأفيدكم بأن دبوسكم قد حقق هدفه في البالون المستهدف.