الحالة الوطنية مثلها مثل أي حالة ارتباط عاطفية أو معيشية، يؤكد عليها ميتافيزيقياً، مع كون أسسها تنبني على شروط مادية محسوسة، مطلوبة وسابقة لها؛ مثل حالة البر بالوالدين. فمع التأكيد الميتافيزيقي على وجوب البر بالوالدين، إلا أنها لا تتحول إلى حالة محسوسة، إلا بشروط، قيام الوالد بحق مولوده، من الرعاية المادية والعاطفية والمعنوية تجاهه؛ "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا". فالوالد الذي لا يقوم بواجباته الأبوية التربوية نحو مولوده، لن ينعم ببره، وعليه يجب ألا ينتظره؛ مع كون بر الوالدين مؤكداً عليه دينياً وأدبياً. فشرط الأبوة البيولوجي؛ قد لا يكون كافياً وحده، لمنح الأب التنعم ببر مولوده؛ ما لم يستوفي باقي شروط الأبوة المطلوبة منه.
توسعت حالة البر بالوالدين، أول ما توسعت، من البيت الأسري الصغير، إلى البيت الأكبر، وهي العشيرة، وذلك عندما توسعت حركة الفرد من داخل البيت، لداخل مرافق الحي الذي يقطنه، والذي من خلاله اكتسب مهاراته ووسائل تحصيله المعيشي. والعشيرة هي التي تضم أكثر من عائلة في جسد تنظيمي جغرافي واحد. ولكون العشيرة هي المانح بعد الأسرة، لأفرادها الأمن وتوفير الرزق، وكذلك حمل الهوية العامة، التي هي أوسع من الهوية الخاصة (الأسرة)؛ امتد ولاء الفرد من مؤسسته الأسرية، ليشمل كذلك مؤسسته العشائرية، بفضل ما منحته من ميزات ضمنت له شروط عيش معقولة، أكثر مما ضمنته له أسرته.
وبعدها تمدد ولاء الفرد أوسع، حينما تمدد من العشيرة للقبيلة وذلك عندما تحسنت مهاراته وزادت حاجياته وطموحاته، لتضطره للحركة ضمن الأحياء المجاورة، التي دعت بحكم الحاجة والضرورة، لتنضم عدة عشائر في جسد تنظيمي واحد، أقوى وأرحب من العشيرة، وهي القبيلة. وبفضل ما كانت تقدمه القبيلة لأفرادها، من أمن وحماية، وتوفير مصادر عيش لهم، وهوية عامة، أرحب من هوية العشيرة؛ فرضت القبيلة ولاء أفرادها لها؛ بحكم توفر شروط الولاء لها. وزاد ولاء الفرد لقبيلته، حينما امتدت سلطة حمايتها له، حتى لو كان خارج نطاق حركتها، ومن هنا، تتبين قوة القبيلة، بتماسك وولاء أفرادها، بفضل ما تقدم لهم من ضمانات حياتية ومعيشية ومعنوية.
وحيث إن القبيلة تتنقل بأفرادها، إلى بقع جغرافية أكثر عطاء نباتياً ومائياً، لم تحرص كثيراً على ربط نفسها داخل حدود جغرافية محددة، وعليه اعتمدت على ربط أفرادها داخل حدود ميتافيزيقية صارمة، أصبحت مع مرور الزمن من مسلماتها. مثل اعتماد القبيلة على اختلاق أساطير تمجد بطولاتها، التي تركز على اصطفاء ذاتها عرقياً، وكذلك اختلاق رموز وهمية لها، كـ(القعقاع) بالنسبة لبني تميم، أو النفخ في سير رموز كانت موجودة كـ(المهلهل) لبني هلال، لتجعل منهم أساطير بشرية. كما اعتنت القبيلة بشعرائها، الذين من خلالهم طبعت ميتافيزيقيتها في وجدان أفرادها مع تكرارها من خلال التغني بها شعرياً، لتتحول مع مرور الوقت والتكرار من أوهام، إلى حقائق.
إذاً فالقبيلة فرضت انتماء أفرادها لها، وجهزتهم للموت في سبيل عزتها وكرامتها والحفاظ على تماسكها وقوتها؛ بتقديم شروط الوفاء والانتماء لها.. من حيث واقع الفرد القبلي الحياتي المحسوس من توفير الأمن له وتسهيل أموره المعيشة، والرفع من ذاته وقيمته المعنوية. وهكذا أسهمت القبيلة بفضل عبقريتها البراجماتية، من الحفاظ على الجنس العربي واللغة العربية، لآلاف السنين، في داخل الصحاري العربية، الفقيرة بمقوماتها الحياتية، من الانقراض، أو النزوح الجماعي عنها.
وعندما ظهرت الدولة العربية لأول مرة، كمؤسسة جماعية، كان من المفترض بأن يتمدد ولاء الفرد العربي أوتوماتيكياً من القبيلة للدولة، حيث من المفترض أن تمنحه أكثر ميزات مما منحته له قبيلته. مثلما حصل له عندما تمدد ولاؤه من الأسرة للعشيرة، ثم للقبيلة بفضل ما قدم له من ميزات أرحب محسوسة ومدعومة بميتافيزيقيا قوية وصارمة. فالإنسان بطبعه يبحث عن الأفضل، ولا يرضى بالأقل فضلاً عن وجود الأكثر فضلاً من المتاح. ولكن الدول العربية الأولى كانت أعجز من أن تقدم للفرد العربي أكثر مما كانت تقدمه له قبيلته، ولذلك فليس من المنطق بالنسبة له بأن يضحي بما هو محسوس، من أجل ما ليس بمحسوس، ولذلك احتفظ بولائه لقبيلته على حساب ولائه للدولة الوهمية بالنسبة له. ما عدا في بعض المدن الحضرية، التي كان للدولة فيها حضور أمني قوي، وشبه المحسوس من خدماتها.
أما في حالة الدولة العربية الحديثة (زمانياً) التي كان من المفترض أن تحل بكل جدارة بمؤسساتها الرسمية والأهلية الحديثة مكان مؤسسات المجتمع التقليدية لأفرادها، خاصة في كون الفرد العربي الحديث قد تطورت مهاراته وتنوعت مكاسب رزقه، واكتسب معلومات حديثة تتخطى ثقافته التقليدية، وأصبح غالبية مواطنيها من قاطني المدن، أي من الطبقة الوسطى، ونتيجة لذلك تعددت وتنوعت مطالبهم واحتياجاتهم، كما فرضها عليهم عصرهم، وأصبح بالأمن والهوية والخبز وحدها لا يحيا الإنسان العربي الجديد، والتي لا تستطيع مؤسساته التقليدية توفيرها له، مثل الحرية والعدالة والمساواة والشفافية وحفظ حقوقه وخياراته الإنسانية من خلال الحفاظ على كرامته والدفاع عنها وصيانتها.
ولكن واقع الدولة العربية القطرية أثبت فشله في الاستجابة لمطالب الإنسان العربي الحديث، وكرست جهدها فقط لتأمين أمنها، الذي قد يتقاطع أحياناً مع أمنه، وفي أحيان كثر قد يأتي على حسابه، فحققت بعض الخدمات الضرورية المعيشية له؛ وأهملت ما سواها من احتياجاته وطموحاته العصرية. ولذلك فما قدمته له دولته لا يعدو عما كانت تقدمه له عشيرته وقبيلته وحتى أسرته منذ آلاف السنين، ناهيك عما تحمله مؤسساته التقليدية هذه من عمق ميتافيزيقي ضارب بجذوره في وجدانه، تسحبه بقوة إليها، في عدم وجود بديل محسوس لها.
هذا من ناحية المجتمعات العربية المحافظة، أما من ناحية المجتمعات العربية التي تميزت بنوع من الانفتاح النسبي؛ فأصبحت ميتافيزيقيا الحداثة الغربية المفاهيمية والمؤسساتية التي انتشرت في العالم العربي، بفضل تطور التعليم، وانتشار وسائل التواصل الثقافية والإعلامية، التي أدت لعولمة مبادئ حقوق الإنسان ومؤسسات الدولة الديمقراطية ومجتمعها المدني الحقوقي؛ سفينة نجاته من واقعه الإنساني والمعيشي المزري. ولذلك فليس بالمستغرب، أن يفر الإنسان العربي الجديد من دولته ومؤسساتها الرسمية، إما للنكوص عنها للوراء، لطلب الفرصة المعيشية والحماية من مؤسساته المجتمعية التقليدية؛ وإما للقفز منها للأمام مستجيراً بمبادئ الغرب ومؤسساته الرسمية والأهلية لاحتواء طموحاته، وتيسير أموره المعيشية، وصيانة إنسانيته. ولذلك فليس بالمستغرب كذلك بأن نشاهد الدول العربية القطرية تتأكل أمامنا الواحدة تلو الأخرى، بسبب كونها أحدث من أن تستجيب لمتطلبات الإنسان العربي التقليدي، وبنفس الوقت، أقدم من أن تلبي مطالب وطموحات الإنسان العربي الحديث.
إذاً فالحالة الوطنية، هي نتاج للمعادلة الوطنية، التي تتكون من عملية حسابية لجمع شروط قائمة أو مفترضة، تعتبر من مقومات تكوين الحالة الوطنية أو الموجبة لها، التي من خلالها تبقى الدول أو تتلاشى بتلاشيها.