قبل البدء أعتذر للقارئ المتابع لتجوز ما سبق أن وعدت الكتابة حوله في المقال السابق وهو (جدل المعرفة والمصلحة) بحيث تم تأجيله إلى المقال القادم، إذ أجدني مضطرا إلى أن أتطرق هنا إلى موضوع ساقته بعض المداخلات على مقال الأسبوع الماضي، حيث لاحظت أن هناك وثوقيّة تامة تنزرع في خطاب من يحاول الرد، سواء على بعض ما أكتب، أو بعض ما يكتبه الزملاء؛ خاصة في المواضيع التي يتداخل فيها الحديث حول الرؤى العلمية والرؤى التقليدية بشكل عام، وقد أثارها وأعاد الجدل فيها صراع الأهلة قبل أسبوع ونصف ما بين العقل العلمي الذي يرى قطعيّة عدم الرؤية، وبين العقل التقليدي الذي ثبتت له رؤيته بطرقه التقليدية، وما بين هذا وذاك تتصارع العقليتان لإثبات مصداقية ما يطرحان في أكثر من موضع، وهو ذاته الصراع القديم بين العقل العلمي والعقل الإيماني.

في بعض الردود، حتى مع محاولة الكاتب تأصيل فكرته بشكل غير وثوقي، أي طرحه رأيه كرأي ليس أكثر؛ فإنه يتم التعمد بتسفيه تلك الرؤى بوصفها خارجة عن معقولية الطرح والفكرة، كما أن هناك روحاً متربصة لأي فكرة لا تتسق مع الفكر العام للمجتمع. هذا الوضع يعزز من جدلية الأفكار، ويعطي مساحة واسعة من الأخذ والرد رغم عدم رغبة الأطراف بذلك. الروح التوجسية روح تفيض حماسة ووثوقية مطلقة ليست هي وثوقية الأفكار نفسها؛ أي أن المساحة للتداول أوسع بكثير من مساحات التضييق، ومع ذلك تطرح بشكل أو بآخر بنوع من الرؤية التي لا تشوبها شائبة.

من جهة أخرى، وعلى نطاق ثقافي أوسع، تتم محاولات الدحض والنقض بين الأطراف التي تدعي العلمية في سياقاتها المعرفية، وبين الأطراف التي تقوم على رؤية تراثية للمعرفة والواقع والحياة، ويتنازع الطرفان موضع الهيمنة الفكرية على مجمل السياقات الثقافية في المجتمع، وعلى ذلك يتم تصنيف الجميع وفق تلك الثنائيات المتقابلة حتى يصبح أي حديث في العلم هو حديث في نقض اللاعلم أو حديث في نقد الرؤى التقليدية، كما أن أي حديث في الرؤى التقليدية هو حديث في نقد العلم، أو في الرؤى العلمية في السياق الثقافي بوصفها رؤى لا تمت إلى الحقيقة المطلقة التي جاء به السلف، ويتبع ذلك كل عمليات النقد المتبادلة صعودا ونزولاً.

في العالم الإسلامي هناك تياران يحاولان أن يتنازعا الهيمنة الفكرية ومن ثم السياسية على المجتمع: التيار "التقليدي" أو "الأصولي" الذي يرى في العودة إلى صيغ محددة من الإسلام السبيل الأفضل في معرفة الحقيقة، وعليه يمكن أن يندمج أفراد المجتمع المسلم كافة وفق هذه الرؤى وتحرير العقل العربي من التبعية الفكرية أو الهزيمة الأيديولوجية التي ترى في الغرب المشكلة الفكرية التي يجب أن يتجاوزها العرب بالعودة إلى تراثهم.. أما التيار الآخر فهو التيار العلمي أو "العلماني" أو التغريبي كما يريد أعداؤه وصفه بذلك، وهو تيار يجنح إلى الأخذ بالمعطيات العلمية المعاصرة، وهي معطيات سياقها يدور في الإطار الغربي أكثر من الإطار العربي أو الإسلامي، ويرى أن الدخول في الحداثة الفكرية التقنية هو السبيل إلى التقدم والخروج من حالة الهزيمة السياسية.

ما بين هذين التيارين تحاول بعض الرؤى الفكرية التوفيق بين المعطيات التقليدية والمعطيات الحديثة من خلال صيغ عديدة: (توفيقية.. وسطية.. إلخ) من خلال محاولة فكرية في "درء تعارض العقل والنقل" كما هي التركيبة التراثية، أو درء التعارض بين "العلم والإيمان" كأسلوب فكري جديد، وبروز بعض التيارات "الإسلامية" التي تجمع بين هذه وتلك؛ لكنها أصوات يبدو أنها ليست لها قوة عالية كما هو النزاع بين التيارين البارزين في المشهد الثقافي.

العقلية العلمية المعاصرة متأثرة بفرضيات العلم الحديث والتجربة والقياس، أما العقلية الأصولية فهي عقلية تراثية متأثرة بالأصول التاريخية للهوية الدينية، وتسيطر الأولى على مجمل الفكر الغربي حديثا، في حين تسيطر الثانية على مجمل الفكر العربي تقريباً، لكن هذا راجع إلى تطورات تاريخية مختلفة بين الأطراف المختلفة. فالعقل العربي يمعن في تقليديته في حين يمعن العقل الغربي في علميته. وتتناقض الرؤى بين هؤلاء وهؤلاء.

في الغرب ظهر التيار العلمي بفعل النقد، وظهرت الأصولية في العالم الإسلامي بفعل الهزيمة، وبسبب النظرة النقدية الغربية فقد ظهر تيار "ما بعد الحداثة" ليدخل الشك في كل شيء حتى في الرؤى العلمية، وقد كتب الصديق عبدالله المطيري سلسلة مقالات في هذا الجانب، لكن العالم العربي ما يزال يراوح ذاته. فإذا كان العالم الغربي تخلى عن هذه الوثوقية فإن العالم العربي باقٍ يتمحور حول ذاته الفكرية القديمة، ولا ندري هل تعيد الثورات العربية الرؤية في هذه العقلية بحيث تضعها على محك النقد، أم أنها ثورات سياسية هدفها العدالة الاجتماعية دون غيرها؟

إن الإمعان في الوثوقية هو إمعان في الدوغمائية والعلم المعاصر في الجانب الغربي هو علم يشك حتى في المبادئ العلمية فضلا عن الشك بالأفكار المطلقة التقليدية، فالحقيقة متعددة الرؤى ولا تقتصر على الرؤى العلمية ولا على الرؤى التقليدية، في حين أن هذا لم يصل حتى الآن إلى فكرنا العربي بسبب التمرحل التاريخي الذي ما يزال في سيرورته نحو الخلاص من التخلف.

إذن.. لا يستطيع العقل العلمي أن يثق بأفكاره كونها موضوع الشك والنقد المستمر، ولا يستطيع العقل التقليدي أن يثق بأفكاره لأنها أفكار ليست ذات درجة عالية من الصحة، كونها لم تخضع إلى التجريب، ولكونها خاضعة للدحض والنقد أكثر من العقل العلمي بسبب أن له وثوقيته التي كان يتمتع بها قبل ظهور ما بعد الحداثة.

من المهم، أخيراً، أن نوضح، أن ما بعد الحداثة ليست هي رجوعا إلى الخلف كما يتوهم البعض، بقدر ما هي إمعان في النقد، وتأصيل للشك في كل شيء، ولذلك فإن الرؤى الوثوقية من علمية أو تقليدية يجب عليها التخفيف من وثوقيتها، والشك في مقولاتها ووضعها موضع النقد والتمحيص، واعتبارها مقولات تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.