أشبه بتراث عالمي يمكن الآن اعتبار الحادي عشر من سبتمبر، ومجرد حدث في ذاكرة هذا العالم، أما في الواقع فلا قيمة له على الإطلاق، وفيما عدا الوضع العراقي الذي يحكمه معممون يرتدون بدلات إيطالية أنيقة، وفيما عدا الجنود الذين يتوزعون في جبال أفغانستان يكاد العالم الآن يبدو خاليا من أي آثار فعلية للحادي عشر من سبتمبر.. كان مقتل أسامة بن لادن عبارة عن توقيع الخاتمة الأخيرة التي أقفلت ملف الحادي عشر من سبتمبر، فبعد أن تراجع الحدث، وتراجعت تأثيراته، وظهرت تأثيرات وظروف ووقائع جديدة، كان لا بد لبطل هذا الفيلم الطويل أن يموت، وأن تنتهي بطولته التي يرسخها التخفي والقدرة على البقاء بعيدا عن أعين مطارديه، ليتم إقفال الفصل الأخير من القصة العالمية الكبرى التي استمرت زهاء عشر سنوات.
بمجرد اندلاع الثورات الشعبية في العالم العربي وبعد نجاح الثورة التونسية تحول تنظيم القاعدة إلى مجرد حدث قديم وإلى نموذج فاشل من نماذج التغيير، أصبح شبيها بالآلة الكاتبة القديمة في زمن الحواسيب المحمولة، وانكشف بطلان التغيير بالعنف والمواجهة، وانكشفت خيبة الثورة بمفهومها الديني القائم على الحرب العقائدية، حيث لم يحظ تنظيم القاعدة ولا مختلف الخلايا والتشكيلات الإرهابية في مختلف بلدان العالم العربي بأي شعبية، ولم تكن رهانا للشارع العربي في يوم من الأيام .التأثيرات المعنوية للحادي عشر من سبتمبر ربما كانت الأبرز حضورا من خلال الدعوات والبرامج العالمية الموجهة للتعايش والسلم الحضاري، لكن الإدارة الخاطئة لما بعد الحادث والتي كان غزو العراق من أكثر تجلياتها غباء؛ أوجدت معالجة خاطئة للحادث، ولم يلبث الشارع أن تحول من رافض – ولو جزئيا – للهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة إلى مناهض لفكرة الغزو على العراق، والتي لم تكن سوى نموذج آخر من نماذج التغيير التي منيت بالخيبة والفشل، ويكفي للدلالة على ذلك أن نقارن بين التغييرات التي حدثت في مصر وتونس مثلا، وهي تغييرات نحو الديمقراطية، وبين التغيير المنتظر حدوثه في العراق، والذي بدأ أيضا تحت عناوين الديمقراطية والحرية. فبينما نجح التغيير وبأقل الخسائر حين جاء محليا وداخليا، ما زالت العراق تمثل شاهدا حقيقيا على خيبة التغيير حين يكون خارجيا وعسكريا. إذن.. قضت الثورات العربية على الحادي عشر من سبتمبر، وأصبح البوعزيزي في تونس أكثر جاذبية ورمزية من أسامة بن لادن، وأصبحت أسماء محفوظ في مصر أكثر رمزية أيضا من أيمن الظواهري وخالد شيخ محمد، والتحقت السياسة الأميركية فورا بقوافل التغيير التي تسير في ميادين العواصم العربية، متجهة للعب دور البوصلة، وبدأت في التخلي عن حلفائها التقليديين في مصر وتونس وفي ليبيا مؤخرا، وهو التخلي الذي يكشف أحد الأخطاء البنيوية الكبرى في السياسة الأميركية لأنها ظلت تتعامل باستمرار مع الحكومات والنخب السياسية ولم تكن تتعامل مع الشعوب، وهو الخطأ الذي كان جزءا من فشل الإدارة الأميركية لما بعد الحادي عشر من سبتمبر، حيث تمت إدارة تلك المرحلة من خلال الحكومات فقط دون النظر لواقع الشعوب وموقفها، وهو ما يفسر انحسار الأثر الفعلي لذلك الحادث الكبير على مستوى الشعوب العربية، وتركز تأثيره على المستويات السياسية. إنما، هل الثورات العربية الآن مرتبطة بأحداث سبتمبر وتبعاتها، وهل من تأثير لتلك الأحداث على واقع الثورات العربية الآن؟
هذا السؤال يتعامل معه كثير من المحليين انطلاقا من فكرة أن أميركا لم تحصد ما كانت تتمنى أن تحصده من آثار الحادي عشر من سبتمبر، فاتجهت لصناعة أحداث جديدة في المنطقة العربية تتمثل في الثورات الداخلية، ومع ما في هذا الرأي من تشاؤم وسطحية إلا أنه يعكس في الوقت ذاته غياب الإيمان لدى النخب السياسية والثقافية بما يمكن أن يقوم به الشارع العربي، خاصة حين وجد أن ثمة مساحة خالية من التدخلات الأميركية يمكن أن يتحرك من خلالها، وفي ذات الوقت بمسار معاكس لها تماما، فالولايات المتحدة كانت تنادي بالديمقراطية والتعددية إنما من خلال الحكومات القائمة، بينما آمن الشارع العربي أن أول خطوة باتجاه الديمقراطيات والحرية تتمثل في إزالة بعض الأنظمة القائمة حاليا، وهي الجرأة التي فاجأت السياسة الأميركية، فاتجهت لتتبناها فورا، بمعنى أن الشارع العربي هو الذي أثر على الموقف الأميركي من الثورات وليس العكس.
في الرابع من يونيو عام 2009 ومن على المنصة الكبرى في جامعة القاهرة ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطابه الشهير الموجه للعالم العربي، والذي قال فيه بأن (على الحكومات العربية أن تخفف قبضتها الحديدية على شعوبها لتتمكن من مصافحتنا) كشفت الأيام أن هذا النداء أقل من طموح الشارع العربي، الذي لم يلبث أن قال للولايات المتحدة أن كل تبعات الحادي عشر من سبتمبر جعلتكم أكثر تمسكا بحكومات العسكر وحكومات قوانين الطوارئ، ولم يلبثوا أن فككوا أصابع تلك القبضة وأن يستبدلوها بأيديهم وأكفهم التي اتجه العالم لمصافحتها بدلا من الأيدي الرئاسية التي تعود على مصافحتها لسنوات.. إنما دون جدوى.