نجاح الدعم الذي قدمته قوات الناتو لثوّار ليبيا في إنقاذ الشعب الليبي من مذبحة متحققة، وإسهام هذه القوات (الغربية) في التخلص من نظام القذافي الدمويّ يخلق إشكالية في الذهنية العربية السائدة. اقتيات هذه الذهنية على نظرية المؤامرة المدبّرة في الغرب لعقود طويلة لا يدع مجالاً لهضم دور الناتو في ثورة ليبيا، ولذلك فإن هذا الحدث يورطها في واقع لم تتوقعه ولا تستسيغه. و"للتخارج" من هذا المأزق الفكري لا بد من تأويل دور الناتو في ثورة ليبيا سياسياً بطريقة يظهر معها الناتو كما يميل أن يراه البعض: متآمراً وشريراً ومهووساً بتدمير كينونة العالمين العربي والإسلامي. بقاء الناتو في هذا الثوب يجعله منسجماً مع الذهنية العربية التي توقفت سياسياً عند (سايس بيكو)، وهي - جدلياً - آخر حقبة تم فيها السماح للشعوب العربية بالانخراط في ممارسة سياسية مباشرة كالثورة العربية عام 1916 قبل أن يدخلوا بعد ذلك في سبات سياسي عميق بعد أن أحكمت النظم العربية سيطرتها على الشعوب، وسردت لهم حكاية ما قبل النوم ذات الأثر المخدر: نظرية المؤامرة.

يقول علماء النفس إن الشخص الذي يؤمن بنظرية المؤامرة في شأن واحد على الأقل يكون أكثر ميلاً لاستخدام نفس النظرية لتفسير شؤون أخرى. بينما يظلّ الشخص الذي لا يؤمن بنظرية المؤامرة كذلك مهما كانت دلائلها قوية. نظرية المؤامرة إذاً ليست إلا أداة نفسية وفكرية واجتماعية يراد من خلالها تفسير الواقع بشكل مريح للفرد والمجتمع والآيديولوجيا. أمتنا العربية منكوبة منذ عقود طويلة بأحداث سياسية جسام تعاقبت عليها مثلما تعاقبت من قبل على أمم أخرى، مما يبرر احتياجها الدائم إلى نظرية المؤامرة لتساعدها على الحياة بآلام قوميّة أقلّ. ولذلك ابتلعت بنهم نظرية المؤامرة بأنواعها الثلاثة: المؤامرة المتعلقة بحدث، والمؤامرة المتعلقة بجماعة، والمؤامرة المتداخلة الهيكل. ولذلك نجد أكثر التفسيرات شيوعاً لأي حدث سياسي عابر هو نظرية المؤامرة، كما نجد كل ما تأتي به الأقوام والتيارات العدوّة (اليهود، الغرب، العلمانيون..الخ) هو جزء من مؤامرة، وأخيراً نجد أن المرحلة الأعمق من استخدام نظرية المؤامرة يتعدى الحدث الواحد والجماعة الواحدة لتصبح جميع الأحداث والجماعات مشتركة في مؤامرة ضخمة ومتداخلة معقدة التركيب.

الفرد العربي لا يسهم في صناعة واقعه السياسي والدولة العربية لا تسهم في صناعة الواقع العالمي. هذا التخلّف المركّب الذي عملت على استفحاله النظم العربية الفاسدة جعل كلاً من الفرد العربي عاجزاً عن تفسير الواقع الذي لم يسمح له بالمشاركة في صناعته، كما جعلت الدولة العربية (بغض النظر عن النظام الذي يحكمها) عاجزة عن تفسير الواقع الذي لم تكن بمستوى المشاركة في صناعته. النظم السياسية الفاسدة بطبيعة الحال تعمل في أفق ضيق يتمحور حول الحفاظ على السلطة، وبالتالي فإن استيعابها للنظام العالمي لا يتعدّى صناعة التحالفات ولعبة الموازنات. إنهم - أيضاً - بما أوتوا من قدرات وسخّرت لهم من موارد عاجزون عن تفسير مستجدات المشهد العالمي، لأنهم اعتادوا أن يكونوا مستهلكين لمآلاته لا صانعين لحالاته. ولذلك يفسر الفرد العربي كل ما لا يفهمه بنظرية المؤامرة، وكذلك يفسر النظام الفاسد اختلال تحالفاته وتغيّر قوانين اللعبة بنظرية المؤامرة أيضاً.

المؤامرة في سياقها العربي ليست وهماً بالتأكيد. فهي واقع يحدث حتى في الشؤون اليومية البسيطة فضلاً عن المشهد السياسي الدولي. المشكلة في كونها لم تقدّم للثقافة العربية باعتبارها واقعاً طبيعياً بل باعتبارها استثناء تاريخياً بفاعل واحد (هو الغرب) وضحية واحدة (هو الشرق). ولذلك تحوّلت المؤامرة من (واقع) ديناميكي يمكن تحليله إلى (نظرية) مصمتة لا يمكن تحليلها. لم تحاول الذهنية العربية تفكيك هذه المؤامرة المفترضة حتى يخلصوا إلى جوهرها وأسبابها، بل قبلوا بها مثل كتلة غامضة وجاثمة على صدر الأمة منذ عقود، فلا حراك للأمة إلا بانزياح هذه (المؤامرة). ولذلك لم تتحرك الشعوب طيلة هذه العقود بسبب رسوخ هذه الفكرة في وعيها الجمعيّ: كيف ننجح وهناك مؤامرة؟ وما جدوى العمل في ظل المؤامرة؟ وهل تظنهم سيسمحون لنا بالنجاح أصلاً في ظل المؤامرة؟ وبالتأكيد، كانت هذه الحالة السريرية للشعوب العربية أفضل ما تتمناه النظم العربية الفاسدة. فالشعوب ساكنة واللوم موجّه إلى الغرب. معادلة مريحة لكل طاغية. وهذا يفسر بالتأكيد العمر الطويل للأنظمة العربية الفاسدة بين 42 سنة للقذافي، و30 سنة لمبارك، و23 سنة لبن علي، و33 سنة لعلي عبدالله صالح.

إن استخدام نظرية المؤامرة كأداة لتفسير الواقع المستغلق هو سلوك اجتماعي طبيعي إذا ظل مؤقتاً ومحكوماً بظروف معينة. أما وقد تحوّل إلى قوة رجعية في الذهنية العربية فإن ذلك يحتم التخلص من هذه الأداة أو تطويرها كما يليق بأي نظرية من نظريات العلوم الإنسانية تتطور مع الوقت وتكتسب امتدادات نظرية وتطبيقية مختلفة. وبرأيي أن الامتداد التطبيقي المناسب لنظرية المؤامرة في عصرنا هذا ليس إلا (التخطيط الاستراتيجي) في عالم تحتدم في المنافسة العولمية على موارد محدودة. فالأفراد والجماعات لا يتآمرون بل يخططون من أجل مصالحهم بشكل استراتيجي. وفي السياق السياسي يكون هذا التخطيط الاستراتيجي مسؤولية وطنية كبرى لا يمكن أن تستغني عنها أي دولة وإلا اعتُبرت حكومتها مفرطة في مصالح الشعب.

الفرق بين (المؤامرة) و(التخطيط الاستراتيجي) يكمن في قبول الأخير كضرورة ملحة للجميع وبالتالي كممارسة مقبولة ومتاحة للجميع خلاف المؤامرة التي تظلّ تصرفاً شريراً لا مبرر له. من يقع ضحية لمؤامرة قد يرزح تحتها طويلاً بلا حراك أو يقاومها بشكل سلبيّ وهدّام، خلاف من يقع ضحية لمخطط استراتيجي فيسعى للإتيان بمخطط مماثل لينافس بشكل إيجابي وبنّاء. أخلاقيات هذا التخطيط الاستراتيجي تختلف بطبيعة الحال حسب الظرف والمرحلة، ووجود طرف متضرر من ناتج هذا التخطيط أيضاً هو شأن نسبيّ. ففي ظل محدودية موارد العالم مثلاً فإن أي تعظيم لحصة أحد المتنافسين يقابله ضرر متحقق على البقية. المهم أن نحيل نظرية المؤامرة إلى التقاعد بعد أن أثبتت فشلها على مدى عقود، ونستبدلها بتخطيط استراتيجي ينهض بالدول العربية لتستدرك ما فاتها كما استدرك غيرها ما فاته.. ووصل.