الإنجاز والتفوق هو سلسلة ذات ثلاث حلقات هي: المؤسسة التعليمية -الفرد – والمجتمع. وفي رأيي أن ضعف إحدى هذه الحلقات الثلاث سيجعل السلسلة ضعيفة وسهلة التفكك.. ولا يمكن العمل على تقوية إحدى هذه الحلقات وإهمال الأخريين.. أو تقوية اثنتين وإهمال الثالثة.. هذا سينتج عنه ضعف للسلسلة كما يقول المثل الدارج "قوة السلسلة تساوي قوة أضعف حلقة فيها". ففيما يتعلق بالفرد قد تتفقون معي أنه لايمكن لأي مؤسسة تعليمية ولا لأي مجتمع أن يرتقي بما نريد إذا لم يكن لدى الفرد الاستعداد والرغبة والحماس للارتقاء بنفسه. ويعرف علماء النفس والمصلحون الاجتماعيون Counselors أن الخطوة الأولى في تفوق الفرد التأكد أن لديه رغبة وثقة.. وإذا لم تتوفر فيجب العمل أولاً على شحن هذا الفرد بالرغبة والثقة.. وكثير من الحالات لديها الاستعداد لكنها تفتقد الرغبة والثقة لأسباب عديدة قد تهمل من جانب البيت أو المؤسسة التربوية فيبقى ذلك الفرد عالة على نفسه وأهله ومجتمعه. والمهم في الأمر والذي لايعرفه الكثيرون أن المشكلة تبدأ من الصغر.. وقبل الالتحاق بالمدرسة.. الفرد قد يكون لديه استعدادات قوية.. وقد يكون لديه موهبة.. لكن لا يملك الرغبة ويحتاج إلى من يشحنه ويحفزه ويخرج مكامن القوة فيه.. ومن هنا يأتي دور الحلقة الثانية.. المجتمع.. المتمثل في البيت وما يحيط ذلك الفرد من أفراد.. وأقارب أو أقران.. هل تصدقون أن رعاية التفوق والموهبة تبدأ من البيت.. اكتشافاً أولا ورعاية ثانياً.. تبدأ العائلة والداً ووالدة وأخا كبيراً أو أختاً كبيرة في اكتشاف مواصفات "الطفل" غير العادية المتمثلة في بعض التصرفات.. فيفترض أحد أفراد العائلة أن هذا الطفل لديه قدرات خاصة.. فيتم إشعار المدرسة ويُعرض على مختصين وتجرى له الاختبارات ثم يلحق ببرنامج خاص ويتولى البيت القسم الأكبر من المتابعة والرعاية والتشجيع وإحضار المستلزمات التي يتطلبها البرنامج الذي يلحق به ذلك الطفل.

إذاً نحن أمام مشكلة مجتمعية كبيرة نعلمها أو لانعلمها.. البيت بشكل عام غائب عن هذا المسرح، ولا يؤدي دوره الذي ينبغي.. وهذا يشكل حلقة ضعيفة في السلسلة.

كثير من الجهود تهدر.. وكثير من الأموال تصرف على قضايا التطوير والتحسين.. ولكن تلك الجهود لم تنجح أو لنقل: إن نجاحها ليس بالمستوى الذي يأمله القائمون عليه.. أتعرفون لماذا؟ لأن هناك في رأيي إحدى حلقات سلسلة المجال الذي نريد تطويره ما زالت ضعيفة وبعيدة كل البعد عن تلك الجهود التي تبذل في التطوير.. ولم يصرف على تلك الحلقة مليم واحد فيبقى مستوى الإنجاز مراوحاً مكانه.. وهذا يحصل أيضاً في مجال التطوير الفردي الذي نحن بصدد الحديث عنه وفي مجالات أخرى لم تحدد كل حلقات سلاسلها فتحظى كل حلقة بالاهتمام الذي تستحقه.

والحلقة الثالثة في تطوير مستوى الفرد وتفوقه ونجاحه هي مايسمى.. التمدرس.. Schooling. وقد حفظت أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية عبارة لمارك توين الروائي الأمريكي المشهور يقول فيها "لن أسمح للتمدرس أن يتدخل في تعليمي".

I’ve never let my schooling interfere with my education

والتمدرس هو أفضل ترجمة اتفق عليها لكلمة "Schooling" وهو حلقة هامة في سلسلة الاهتمام بالفرد وإعداده ورعاية مواهبه.. والحديث عن التمدرس يطول لأهميته لكنه ليس موضوعنا اليوم.. إنما جاء في سياق الحديث عن سلسلة الاهتمام بالفرد الذي يعد التمدرس واحداً من أهم حلقاتها.. والتمدرس كما قال مارك توين قد يدمر تعليم الفرد إذا كان تدخله سلبياً.. ولهذا يجب ألا يسمح المجتمع بمستوى تمدرس ضعيف لعلاقته القوية بتعليم أفراده وإعدادهم للحياة وتفوقهم.. حتى إذا كان لدى الفرد الاستعداد والرغبة وإذا كان البيت واعياً ومساهماً ومؤدياً دوره كما ينبغي فلن يكون إعداد الفرد بالمستوى المطلوب إذا ضعفت حلقة التمدرس.. وفي هذا السياق أطلق هوارد جاردنر، عالم النفس الأمريكي صاحب نظرية "تعدد الذكاء"، مصطلح "العقل غير المتمدرس" unschooled mind على الفرد الذي لا يسهم تمدرسه في تعليمه.

وخلاصة القول، إن إعداد الفرد بشكل ناجح وفاعل يقتضي معرفة أن ذلك الإعداد هو سلسلة ذات ثلاث حلقات هي الفردية التي تعني أن يكون لدى الفرد الاستعداد والرغبة في تطوير نفسه وإذا لم يكن لديه الاستعداد وتلك الرغبة فلابد من غرسها فيه حتى وإن عرضناه على مستشار تعليمي أو نفسي أو سمه ماشئت.

والثقافة المجتمعية المتمثلة في البيت الذي يجب أن يكتشف ويرعى ويستمر في رعاية ودعم وتشجيع وحفز ذلك الفرد.

ثم التمدرس الذي يجب أن يسهم في تعليم ذلك الفرد بالمستوى المطلوب.. وذكرت أنه من المهم أن نعرف تلك الحلقات الثلاث وحقائقها ومتطلبات تطويرها.. ثم نركز على تطويرها مجتمعة بالمستوى نفسه.. ولاتحظى أي واحدة منها بمستوى اهتمام أكبر من الأخريين.. هكذا يمكننا إنتاج فرد يستمتع بكل ما في داخله من مواهب وقدرات.. ويمكنه استثمارها في تطوير نفسه ليعود النفع عليه وعلى الوطن عن طريق مساهمته في أحد جوانب التنمية فيه.