عندما يواجه النظام في دولة ما أزمةً داخليّة؛ فإنه سرعان ما ينحو باللائمة على جهات خارجية متورطة في إثارة الأزمة، وتبعاً للتفسير تتحوّل الأزمة إلى فتنة يذكيها عملاء الخارج المدسوسون بين صفوف الشعب. ويتوقف الحل عن علاج الأزمة، ويستبدل بمطاردة الشبح الخارجي المتربص وأتباعه من الذيول؛ أدواته التنفيذية على التحريض والتخريب. وبالنتيجة تستمر الأزمة وتتفاقم، ويترتّب عليها أزمات أخرى، المخرج منها دائما الشبح الخارجي. ويبدو أن التفسير بالخارج لم يعد مقصوراً على الدول، فقد انتقلتْ العدوى إلى المؤسسات والشركات حين تُوَجَّه ملاحظات إلى ما تنتجه من بضاعة فاسدة، تأخذ المستهلكين إلى الأسرّة البيضاء. تدّعي الشركة أو المؤسسة أن سجلّها ناصع البياض كبياض أسرة المستشفيات، والنقاط السوداء في منتجها الفاسد إنما هي من صنيع المنافسين الذين يقومون في الخفاء بالتزوير والعبث والدس حتّى تسوء سمعة الشركة. وهنا ترتفع المطالبة بالبراءة وتتبع خيوط الغش وما علق فيها من روائح كريهة وأجساد حشرات تتقلّب في العبوّات. وبكل الأحوال ينبغي لنا أن نصدق وأن تطوف علينا وأن نشربها من كأس الدولة العربية وشركاتها العربية.
ولماذا لا نشرب تلك الكأس مثنى وثلاث ورباع.. لأننا أيضاً نمرّر الكأس ذاتها بيننا اجتماعيّاً. أليس نحن من يخطئ أبناءنا ونجد لهم العذر تلو العذر إذا ما غاصوا في الأوحال. إنهم أبرياء وطيبون (وما منهم خلاف).. والذنب كلّ الذنب يقع على عاتق رفقاء السوء؛ مندوبي الشيطان المتجولين الذين يستغلّون الطيبة والبراءة؛ فيقودون الحملان الوديعة إلى سكّين الجزّار.
في كل المستويات نلتقي بادّعاء البراءة ونظافة اليد، والتخلّص من ثقل المسؤولية والشعور بالذنب. وتنتفي المبادرة للمواجهة ووضع الحلول واتخاذ الإجراءات اللازمة لتخطي المشكلات.. تُترك الأشياء على حالها:
الأزمة في استفحالها..
البضاعة على فسادها..
والرجاء كلّه أن تحلّ الأزمة نفسها بنفسها دون تدخّل من صنّاعها.. ولا بأس من مدّ الرِّجْل انتظاراً لشفاء الزمن العجيب القادم لا محالة بانفراجاتٍ لم تكن على البال ولا على الخاطر!
بهذه الوضعية الجامدة من اللامبالاة إزاء الأحداث والمشكلات والوقائع؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يمكن الوصول إلى مخرج في نفق طويل وموحش، تخلّى فيه المسؤول عن مسؤوليته. لا يريد أن ينظر إلى الداخل وأن يتعلّم وأن يدفع الكلفة. رغم أن الكلفة قبل الاستفحال هيّنة، لكنها مع الزمن سوف ترتفع على نحوٍ غير قابلٍ للسداد أبداً، والدليل هذا الربيع العربي الذي اندلع، حين بلغت الأزمةُ الحلقومَ، يهزّ الجذور ويقلب التربة من جديد.