في تزامن عجيب وفي مجلس واحد كنت استمع إلى حديثين بعيدين جدا ـ ظاهريا ـ عن بعضهما ، فالأول حدث قروي بحت لا يخرج عن إطارالعرف القبلي البسيط ، والآخر حدث دولي يتحدث به كل لسان على الكرة الأرضية . أما الحدث القروي فهو نقاش حول طريقة استقبال بعض العائدين إلى القبيلة "الأم" بعد أكثر من مئة وخمسين عاما كانوا خلالها أشبه بالمهاجرين في مدينة أخرى تبعد أكثر من 1500 كليومترعن مكان القبيلة ، حيث جاءوا بما قالوا إنه يثبت إن أجدادهم هاجروا ولم يعودوا بسبب البحث عن لقمة العيش يومها ، حيث استقروا وكونوا عائلات عديدة منها الثري جدا. ومع ذلك هم مستعدون لدفع الغالي والنفيس من أجل العودة إلى "الأصل". أما الحدث الثاني الذي يعرفه الجميع فهو ما يحدث في ليبيا والاستغاثة الدائمة التي يبثها القذافي عبر رسائله الصوتية بقبيلته من أجل محاربة أعدائه , وهم بالطبع أبناء الوطن الذي كان يحكمه ..!!.
فما يجمع الحدثين هو البحث عن القبيلة والاحتماء تحت ظلالها حتى وإن كانت شجرة متساقطة الأوراق .
ومع أن الاستغاثة بالقبيلة في عصرنا هذا تعتبر من النوادر جدا في عالم يقوم على مؤسسات مجتمع مدني وكيانات سياسية ضخمة ، إلا أنها عربيا أضحت ظاهرة لافتة للنظر، حيث أرجع د.عبدالله الغذامي في كتابه "القبيلة والقبائلية" الأمر إلى" تراجع المثاليات القومية والحداثية وبداية تقهقر الطبقة الوسطى وهو ما صاحبه عودة الأصوليات التقليدية في الثقافة الكونية بعامة"، مع أنني لا أرى رأي د. الغذامي في أن الأمر أصبح ثقافة كونية ، فهو بامتياز ثقافة عربية دون منازع .
فهل يدفع العرب الآن ثمن الصراع ـ المغلف بأردية اجتماعية ودينيةـ حول تكوين مجتمع مدني حقيقي يضمن الحقوق والواجبات ضمن إطار عصري وثقافي مستقل عن الغرب والشرق، اللذين كانا وما زالا شماعة الهروب لدى بعضهم من إشراك المجتمع العربي في صناعة القرار ؟؟ حيث يردد هؤلاء دائما مقولة "إن المجتمع المدني ثقافة غربية لا تصلح لمجتمعاتنا" وهذا حكم عام يحمل في طياته الصواب والخطأ في الوقت نفسه . فمن المؤكد أن لكل ثقافة ميزاتها وقيمها التي تميزها عن الذوبان في الآخر، وهذا دليل قوة ومنعة ، ولكن في الوقت نفسه هناك مشتركات بشرية لا تختلف عليها الأديان ولا الأعراف الإنسانية ، وفي مقدمتها العدل والشفافية ومحاربة الفساد وتوفير حد أدنى من الكرامة الإنسانية . ولو كانت هناك مجتمعات مدنية حقيقية في العالم العربي،لكانت هذه القيم هي السائدة، ولما احتاجت الشعوب إلى"الثورات" التي قد تكون مدخلا لأعداء الأمة للتدخل في كل صغيرة وكبيرة ، ولكان التغيير ـ عند الحاجة له ـ سلميا لا تراق فيه قطرة دم واحدة .