لا يكاد يخلو أي منزل حولنا من مبدع انصرف عن هوايته وشغفه بسبب تهكم أو سخرية. ضحى الكثير من أصدقائنا وأقاربنا بمواهبهم إيثارا للسلامة. فخلت مجتمعاتنا من المبدعين إلا من رحم الله.

السخرية دائما ترتبط بأي عمل إبداعي صغيرا كان أو كبيرا. لكن النجاح لا يحالف سوى من يدير ظهره لمن يثبط عزيمته ويقلل من شأنه، ويمضي في سبيل تحقيق ذاته ومواصلة إبداعه.

التاريخ لن ينسى اسم نيكولا تيسلا. لقد تعرض منذ أن كان مراهقا إلى سيل من التهكم إزاء اهتماماته وأفكاره، بيد أنها لم تزده إلا إصرارا على المواصلة والعمل. تيسلا الذي ولد عام 1856 في قرية سميلجان الجبلية القريبة من جوسبيك التابعة للإمبراطورية النمساوية سابقا ـ كرواتيا في العصرالحديث ـ كان ينعته رفاقه مبكرا بالمجنون إثر جمعه لحطام الأدوات المهملة وانكبابه عليها. وكلما ازداد تهكم من حوله بما يقوم به زاد تصميما على المضي قدما. فعندما كان يدرس الهندسة الكهربائية في معهد البوليتكنيك بمدينة غراتس النمساوية سخر الكثير من زملائه من أسئلته ونقاشه مع أساتذته، كانوا يعيرونه ويهزأون منه كلما طرح سؤالا جريئا. لكن لم يدع تيسلا الإحباطات تقوده إلى التوقف عن التساؤل، بل على العكس تماما ألهمته ليواصل قلقه ويثبت جدارته وتميزه مرددا: "المستقبل ليس لمن يسخر، وإنما لمن يتساءل ويعمل".

بالفعل كان المستقبل لتيسلا الذي قاده نجاحه للانتقال إلى أميركا والحصول على جنسيتها، والأهم من ذلك إنجازه لنحو 700 اختراع مؤثرفي حياة كل فرد منا. نيكولا هو رائد الأجهزة اللاسلكية، ويرجع له الفضل بعد الله في تطورها ونموها. فهو من قام باختراع الريموت، والربوت، والرادار، وغيرها من الأجهزة التي لا غنى لأي منا عنها في وقتنا الحاضر.

لم يقلع تيسلا عن الاختراع عندما قوبلت تجاربه الأولى بالتهكم والازدراء؛ لأنه يثق أن المستقبل هو الذي سينصفه. ستذر الرياح كل الكلمات المثبطة، في حين ستخلد الأعمال الجادة المبدعة. ينسى التاريخ كل من يسخر، لكنه يتذكر كل من يسحر أبصارنا وحواسنا بإنتاجه. لذلك ورغم مرور سنوات طويلة على رحيل تيسلا مازال الكثير من الدراسات ودور النشر والسينما تتحدث عنه بفخر وامتنان. ليس ذلك فحسب، بل صارت صوره تطبع على عملات نقدية في أوروبا، واسمه أمسى عنوانا لمعاهد تقنية وجامعات ومتاحف وشركات كبرى تكريما لإنجازاته التي لا تنسى.

إننا لا يمكن أن نتخيل حياتنا دون الأجهزة اللاسلكية التي اخترعها تيسلا وغيرت معالم التقنية في حياتنا. لا أدرى ماذا سيكون العالم اليوم لو أن تيسلا أذعن للأصوات المُحبِطة وأضرب عن الإبداع؟!

إن ما آل إليه مجتمعنا اليوم هو نتيجة طبيعية لخضوعنا للأصوات المثبطة التي دفعتنا للتخلي عن شغفنا وتطلعاتنا، والاكتفاء بكل ما هو تقليدي درءًا للنقد.

تعاطينا السلبي مع الإبداع جعلنا نسخا مكرورة مشوهة، تقوم بنفس الأشياء على نحو متطابق، يصيب بالملل ويكرس النمطية في أبشع صورها. هل من المعقول أن مجتمعاتنا العربية التي تعج بالملايين من البشر لم تنجب عقلية مثل تيسلا؟ بالتأكيد أنجبت أعظم من تيسلا. لكنهم ماتوا مبكرا جدا جدا، مما حرمنا من الاختراعات وحتى الابتسامات.

إن البنية الفكرية العربية هشة وضعيفة لا تقاوم وليس لديها مناعة ضد السخرية والنقد، فتجدنا ضعفاء أمام النقد والسخرية والتهكم. جملة واحدة بوسعها أن تجردنا من أحلامنا وتعصف بطموحاتنا. علينا أن نؤمن أن من سيخسر هو من يسخر، وسينتصر من يعمل ويصبر.

إننا يجب أن ندير ظهورنا للسلبيين ونواصل حلمنا وعملنا. المُحبِطون لا يصنعون إنجازا وإنما نحن من يصنع إذا أردنا أن نصنع.