هدأ الجدل، إلى حد ما، خلال السنة الماضية حول قضية الأهلة، وقد كانت من أكثر القضايا التي أشغلت الأوساط الثقافية والدينية في السعودية، ولم تكن لتحسم حتى الآن، لكن تقارب الرؤى العلمية حول ظهور الهلال والرؤية العينية المباشرة، كما أن اعتبار المراصد الفكية شريكاً فعلياً في مسألة الترائي خفف حدة الجدال، لكنه لم يحسمه بشكل نهائي.

عاد هذا الجدل مرة أخرى إلى السطح في نهاية شهر رمضان قبل أيام قليلة، حيث صرح علماء الفلك في العالم العربي بإجماع عن استحالة رؤية هلال شوال، مما يعني المكمل للثلاثين من شهر رمضان، والمفاجأة أنه تم الإعلان عن رؤية الهلال بالعين المجردة، وتحديداً في المنطقة الوسطى من السعودية: سدير وشقراء، وهما بلدتان اشتهر عنهما رؤية الهلال في أكثر من مرة في سنوات مضت.

ما فَجّر القضية أكثر حتى أصبحت حديث المجالس طيلة أيام العيد بيان أصدرته جمعية الفلكيين في جدة، نشرته صحيفة سبق الإلكترونية. يؤكد هذا البيان استحالة رؤية هلال شوال، وأن الذي شوهد يحتمل أنه كوكب زحل، تماما كما هو الخطأ في رؤية عطارد قبل سنوات. ويسوق الفلكيون في البيان حججاً تبدو منطقية لقوة الرصد وصحته، حيث اقتصار الرؤية فقط على المنطقة الوسطى من المملكة، وكان من الأولى رؤيته أكثر وضوحاً في المنطقة الغربية لعدم وجود الموانع التي تكثر في المنطقة الوسطى، كما يستدلّون بدقة الرصد من خلال دقة توقيت الصلوات اليومية، ورصد حالة الكسوف بالدقيقة والساعة، مما يجعلهم يؤكدون مرة أخرى على استحالة ظهور هلال شوال يوم الاثنين الماضي داعين إلى إنشاء مراصد في المنطقة الوسطى كسدير وشقراء، واستعداد الجمعية للتعاون مع الطرق التقليدية في تحري الأهلة كي تكون الأمور أكثر دقة ووضوحاً لدى الناس.

هذا البيان يعيدنا إلى نقطة البدء في مسألة استخدام الطرق البدائية بدل الطرق الحديثة في رصد الأهلة، وجدوى الطريقتين في تحديد دخول الأشهر وخروجها. إحدى القنوات الإسلامية قبل سنتين أظهرت حلقة عن أحد الرجلين اللذين اشتهرا في رصدهما الأهلة بالطرق البدائية كل عام. كانت طريقته أقرب إلى ما يمكن أن نسميه مرصد بدائي، حيث يتتبع منازل القمر بأدوات عادية جدا ليعلن عن رؤيته الهلال أو عدم رؤيته بالعين المجردة. هذا يحيلنا إلى سؤال القيمة من وجود المراصد الأكثر دقة، إذا كانت الرؤية بهذه الطريقة ممكنة؟!

لستُ معنياً في هذا المقال بتحديد جدوى الطريقة البدائية أو الطرق الحديثة؛ إذ إن الأمر ببساطته وبدهيته عندي أن ما لا يمكن رؤيته بالمراصد، والتي تستطيع رؤية الهلال عشرات أضعاف حجمه في العين المجردة، لن تستطيع العين رؤيته مهما أكد البعض هذه الرؤية، فالإشكال لايقع في مسألة "قطعية الرؤية" أو "قطعية عدمها"، بل هي في المنطقة الواقعة بينهما وهي: "جواز الرؤية" حسب مصطلحات الفلكيين والفقهيين. كما أنني لن أناقش الإشكالات الفكرية حول إثبات الشهور والتوقيت القمري، فقد كتب عنها الكثير خلال السنوات الماضية، ويمكن الرجوع إلى كتاب جدير بالاطلاع لدى ثلاثة باحثين هم: د.نضال قسوم، ومحمد العتبي، ود.كريم مزيان، بعنوان: "إثبات الشهور الهلالية ومشكلة التوقيت الإسلامي: دراسة فلكية وفقهية"، فقد أفاضوا في النقاش الفقهي والفلكي بين مؤيد ومعارض، وقدموا بعض الاقتراحات لهذه المسألة.

الذي أريد أن أتطرق إليه في هذا المقال، والذي لفت نظري كل مرة حول الحديث عن مشكلة الأهلة، ليس في تضارب الأخبار حول الرؤية من عدمها، أو جدل دخول الشهر أو خروجه، وإنما في الرؤية العامة للعلم من خلال الرؤية للفلكيين وأقوالهم وحساباتهم، وهي رؤية للأسف غير منصفة تماماً، إذ يتم وصف هؤلاء الفلكيين بأنهم مجموعة جاهلين أو "ما عندهم سالفة" باللهجة الدارجة، وعلى الرغم من قوة الحجج التي يسوقها الفلكيون كل مرة دفاعاً عن طرقهم العلمية، وقد ثبتت في أكثر من مرة دقة رصدهم، إلا أنه يتم تكذيبهم ببساطة من قبل الناس.. فلماذا؟

لستُ معنياً هنا أيضا بالدفاع عن أحد، فالأخطاء واردة حتى عند أكبر العلماء، بل إن العلم نفسه يؤسس إلى نقض نفسه أحياناً، وهذه طبيعة العلوم، وإلا ما كانت قد تطورت كل هذا التطور، لكن الذي أنا معني به هو الرؤية العامة للعلم بوصفه علماً. هذا التشكيك بالعلم له أوجه عديدة في الحياة، ليس أقلها التشكيك في صحة ما يقولون، بل وعدم أخذه على محمل الجد، حتى يصبح رأي واعظ عادي في المسألة العلمية أهم بكثير من رأي ألف عالم من العلوم التطبيقية.

العلم الرياضي من أصعب العلوم حتى من الطب نفسه، فهو العلم الذي يستطيع الدخول في كل جوانب الحياة، ودائما ما نضرب المثل في الجزم في دقة العلم الرياضي (واحد زائد واحد يساوي اثنين)، هكذا نقول لوصف دقة الخطاب، بل إن بعض العلماء من حماسهم العلمي يقولون: إن الكون مكتوب بلغة الرياضيات. والفلك من أهم العلوم التي يتعامل مع الرياضيات في كل عملياته الحسابية. هذه الدقة والمنهجية العلمية ليس لها أي قيمة لدى الكثير من الناس، حتى سمعنا من يتساءل عن جدوى وجود العلم الرياضي من أصله وفائدته، فلماذا يتم تجهيل الناس بهذه الطريقة، وبهذا التشكيك المبالغ فيه؟

برأيي أن المسألة عائدة إلى نمط التفكير العام، وهو نمط يقتصر المعرفة في السياقات غير العلمية، أي السياقات التي لا تخضع إلى الحس التجريبي، وإنما إلى الحس البياني كما هو تقسيم محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي: "البيان والبرهان والعرفان"، والتي بدورها تُشَكّل مجمل أنساق الفكر العربي، وهي أنساق لا علمية إذا استثنينا العقل البرهاني: (العقل الفلسفي) رغم أن طابع العصر الحديث يفصل بين الفلسفة والعلم.

هناك صراع عميق في مدى هيمنة الرؤى العلمية أو الرؤى التقليدية في العالم العربي والإسلامي، والتقليل من أهمية العلوم ناتج عن مدى تعمق الرؤى التقليدية _ بأوسع ما توصف به هذه الكلمة _ في الوجدان الجمعي لدى الناس، وتصبح أكثر إشكالاً حينما تتماس الرؤى العلمية مع الرؤى الدينية، وكل عمليات التوفيق بين الدين والعلم لم تُثْمِر في تجاوز هذه الأزمة، إلا فيما يخص تأصيل الرؤى الدينية أكثر وأكثر كقضايا الإعجاز العلمي، لكونها تعطي أهمية للرؤى التقليدية على الرؤى العلمية، لتصبح الرؤية العلمية تابعة في شكل من أشكالها للرؤية التقليدية، واللاعب هنا هي مسألة الهيمنة، والتي بدورها تخضع إلى المصلحة، إذ ينشأ ما يمكن أن نسميه بجدل "المعرفة والمصلحة"، وهذا موضوع فلسفي آخر لعلنا نتطرق إليه في المقال القادم.