قبيل الانتخابات الأميركية الرئاسية عام 2008 شهدت الانتخابات الحزبية تغييرات نسبية في خريطة ناخبيها بعد عملية انتقالات متبادلة. الحالة الملهمة التي بدا عليها الحزب الديمقراطي وهو يدفع بامرأة وأسود لأول مرة في تاريخ البلاد للمنافسة على أهم منصب في العالم حرضت الكثير من الناخبين الجمهوريين على التسجيل في الحزب الديمقراطي كي يتسنى لهم التصويت في انتخاباته الأولية. وفي المقابل، انتقل ناخبون ديمقراطيون إلى الحزب الجمهوري متأثرين ببقايا الخطاب المحافظ الذي أججته الأحداث الإرهابية والحروب التي لحقتها تحت تأثير نزعة وطنية متوقعة من بلد يخوض حربين في آن واحد. هذه الانتقالات بين الحزبين كان يمكن أن يُنظر إليها آنذاك بعين متفائلة ترى ذوبان الحاجز الإيديولوجي بين الحزبين تدريجياً، وتبشّر بتحوّل الناخبين من الدوغمائية المطلقة التي كانت تحتكر أصواتهم لحزب واحد طيلة العمر إلى الانتقائية الإيجابية التي يختار الناخبون من خلالها مرشحهم بناءً على أسس موضوعية تنتقل بهم بين المعسكرين بكل أريحية، بحثاً عن المرشّح الذي يحقق لهم مآربهم الانتخابية. وقد عزز فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية من ذلك التفاؤل، لاسيما مع نزعته لتجنب التصادم مع الجمهوريين، متبعاً سياسة التنازلات الحزبية من أجل المصلحة العامة، وكذلك شروعه في محاولة إغلاق الملفات الملتهبة بين الحزبين، مثل مستوى الضرائب ومعتقل جوانتانامو وغيرها. بل إن تشكّل (حزب الشاي) ذي الرؤى اليمينية المتطرفة ضمن الحزب الجمهوري بدا مثل اعتراض على حالة وفاق تلوح في الأفق بين الحزبين، مما دعا بالمتطرفين الجمهوريين إلى استقطاب بعضهم البعض في بؤرة مكثفة تحت ظل الحزب الكبير.

ولكن مؤشرات التقارب الإيديولوجي بين الحزبين ارتدّت مؤخراً لتعكس عن صدع أعمق من ذي قبل، عبرت عنه بوضوح أزمة سقف الدين الأخيرة التي كادت تعصف بكرامة أميركا الاقتصادية. بدا الحزبان في محاولاتهما لنقاش هذه الأزمة أبعد ما يكونان عن الوفاق، وانخرطا معاً في جدل عقيم وصراع ديكي رغم الخطر المحدق الذي كان يهدد اقتصاد البلاد في ظرفه الأصعب، وانشغل الطرفان بخلافاتهما الملتهبة حتى لم يتمكنا من تعديل الدفة إلا وقد أضحى الاقتصاد على مشارف الهاوية. هل كان الكونجرس عاجزاً عن الإتيان بحل توافق عليه الأغلبية؟ أم كان عاجزاً عن تأسيس قاعدة حوار مشترك بين الحزبين الغالبين؟ أياً كان السبب فقد ذاق المواطن الأميركي الأمرين بسبب المخاوف الاقتصادية من تراجع الاقتصاد الأكبر في العالم، وما قد يتبعه من آثار انسحابية مؤلمة على الاقتصاد العالمي. هذا السلوك الذي مارسه الكونجرس الأميركي ـ الذي كان مشهوداً له بالكفاءة والجدل الهادئ فيما سبق ـ أدى إلى خسارته لهذه الميزة مقارنة بمؤسسات برلمانية أخرى. وظهر الكونجرس الأميركي متراجعاً في معدل الكفاءة عن كل من برلمانات كندا وألمانيا وبريطانيا حسب دراسة أجرها المحلل الاقتصادي دانييل كوفمان للمنتدى الاقتصادي العالمي (نشرته مجلة الإيكونومست).

لا شك أن قانون الأحزاب في أي نظام ديمقراطي لم يوضع إلا لامتصاص الخلافات الشعبية، وضخها في كيان شرعيّ يمارس حراكاً سياسيا تحت مظلة نظام تعدديّ. وفي دولة مثل أميركا، تتغير ملامحها الديموجرافية كل سنة مع وفود أكثر من مليون مهاجر من مشارب مختلفة، فإن الحزبين الجمهوري والديموقراطي مارسا ذلك الدور بنجاح. اجتمعت قيم المحافظة والرأسمالية واليمين في الحزب الجمهوريّ، بينما احتضن الحزب الديمقراطي اليسار والعدالة والليبرالية. تنافس الحزبان في ميادين مختلفة طيلة أكثر من قرنين من العمل السياسي الأميركي، ونصّب الأميركيون رموزهم العظام من الحزبين بشكل متساو بين بطل الوحدة الأميركية أبراهام لينكون الجمهوري وبطل الحرب العالمية الثانية روزفلت الديمقراطي. ظل الصراع بين الحزبين يتشكل حسب طبيعة الأزمة التي تمر بها الأمة. فجدليات الحروب والنزاعات الخارجية تتخذ في الغالب طابعاً إيديولوجياً يدور حول رسالة أميركا الإنسانية ودورها العالمي، بينما جدليات الاقتصاد تتمحور حول الرأسمالية والاشتراكية، وجدليات الحقوق تدور حول القومية والهوية، ووجهات نظر كل حزب حول هذه القضايا معروفة.

في هذه الأيام، تمرّ أميركا بأزمة تكاد تكون خليطاً من كل هذه الأزمات السابقة. فالدولة تخوض حربين طالتا أكثر من التوقعات المسبقة، والاقتصاد يمرّ بنفق مظلم ابتداءً بأحداث سبتمبر وحتى أزمة سقف الدين، مروراً بأزمة الرهن العقاري، وأزمة أسعار البترول والغذاء، وأزمة صناعة السيارات. كما أن القيم الأميركية تمر بامتحانات عسيرة عبر ملفات الحرب على الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والحفاظ على البيئة. هذا الخليط من الأزمات التاريخية التي قلما اجتمعت معاً على طاولة رئيس أميركي قبل أوباما تزيد الصدع بين الحزبين وتعظّم الشقّة بينهما، لأن كل حزب يملك تصوراً مختلفاً عن الأسباب التي أدت إلى كل أزمة منها، والحلول التي يجب أن تعالج بها. ولعل الرئيس أوباما قد استشعر أن هذا الكم من الأزمات لا يمكن حله إلا بكونجرس قويّ، ولذلك سعى لتمرير القرارات الأصعب، كمشروع الرعاية الصحية في السنتين الأوليين من حكمه، عندما كانت أغلب مقاعد الكونجرس يشغلها الديمقراطيون قبل أن يقلب الجمهوريون الطاولة عليهم في انتخابات 2010 التشريعية. دخل أوباما بعد ذلك في سياسة المفاوضات مع الجمهوريين وتقديم التنازلات المتعددة مثلما فعل في أزمة سقف الدين الأخيرة.

إلا أن كل هذه الجهود حسب وجهات نظر متعددة لا ترقى إلى كونها حلاً لأزمة أميركا الأساسية: وهي أنها تمر بعاصفة من الأزمات المتلاحقة بمؤسسة تشريعية منقسمة وغير فعّالة. أدرك الكثير من المحللين الذين عكفوا طويلاً على تحليل جذور الواقع الأميركي أن مشكلة أميركا ليست في ما تواجهه من أزمات بقدر ما هي في الأداة الأهم في حل الأزمات وهي المؤسسة التشريعية، ولذلك جاءت رؤاهم متشابهة رغم اختلاف منطلقاتهم التحليلية: إصلاح المركب التشريعي يجب أن يسبق محاولات تجاوز العاصفة.