قفزت الفيزياء الحديثة في القرن العشرين قفزات كبيرة جدا، وصلت بها إلى إحداث قطيعة معرفية مع الفيزياء الكلاسيكية في أكثر من موقف. تمثلت هذه القفزات بشكل أساسي في نظريتي: النسبية وفيزياء الكم. قدم ألبرت آينشتاين (1879-1955) للعلم نظريته النسبية الخاصة 1905 والنظرية النسبية العامة 1916. ليقول بصراحة ووضوح إنه لا وجود لمرجعية ثابتة ومطلقة وإن كل مرجعية لإجراء القياس في العلم هي مرجعية نسبية. فكل قياس هو بالنسبة للقائس نفسه وليس قياسا مطلقا. قامت النظرية على مسلمتين أساسيتين الأولى: هي مسلمة النسبية، والثانية مسلمة ثبات سرعة الضوء. هذه المسلمات تقول إن الفيزياء الكلاسيكية ـ فيزياء نيوتن بشكل رئيس ـ لم تعد صالحة لأن تقدم قوانين للحركة في مستويات معينة، مستويات السرعة الفائقة، باعتبار أنه في حال هذه السرعة فإن شكل المكان يختلف ولم يعد مستويا كما تصورت فيزياء نيوتن، فيزياء التنوير. وبالتالي فإن قياسات الحركة يجب أن تختلف. أحدثت النظرية النسبية تغييرا كبيرا في مفهومي الزمان والمكان. فقد نزعت منهما قيمة الإطلاق ليصبحا نسبيين. الزمان أصبح مربوطا بالسرعة، وبحسب هذه السرعة يمكن أن يتغير طريق سيره، من الحاضر للماضي أو إلى المستقبل البعيد. المكان أيضا أصبح منحنيا، بل الكون كله ظهر على أنه منحنٍ، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة عند سرعة معينة. هذا التعديل في مفهوم الكتلة يترتب عليه تعديل في مفهوم المادة والطبيعة بشكل كبير. يجب التذكير هنا بأن الفيزياء في عصر التنوير هي التي أعطت التصور الأساسي عن الطبيعة، التصور الذي بنيت عليه التصورات الفلسفية والعلمية. وسنرى لاحقا حديث فيلسوف العلم رايشنباخ عن تأثير النظرية النسبية على مفهوم المكان عند الفيلسوف "كانت". باعتبار أن "كانت" قد بنى فلسفته على أساس الفيزياء النيوتنية، وأراد لفلسفته أن تكون قانونا للفلسفة أساسيا كما هي حال فيزياء نيوتن في العلم. يقول "كانت" عن أثر الفيزياء والرياضيات في فلسفته: "أعتقد أن مثال علمي الرياضة والطبيعة، اللذين صارا على ما هما عليه الآن من جرّاء ثورة فجائية، هو مثال جدير بالعناية بما يكفي لكي نتمعن في هويّة التحول في طريقة التفكير الذي كان مجديا لهما إلى ذلك الحد، فنحاول على الأقل تقليدهما في ذلك، وبقدر ما يسمح تمثيلهما، كمعارف عقلية بالميتافيزيقا".(نقد العقل المحض،صـ34).
مفهوم النسبية هنا أصبح ضرورة في كل قول في المعرفة، أي أن كل قول معرفي هو نسبي بالضرورة. انتشر هذا المبدأ من الفيزياء النظرية إلى كل أشكال المعرفة. وهو يواجه يقينية المعرفة التي طرحت بقوة في عصر التنوير. لم يعد من الممكن تقديم معرفة يقينية بمعنى أنها صالحة لكل زمان ومكان. لم تعد معرفة من هذا النوع مقبولة في الأوساط العلمية والمعرفية، باعتبار أن النظرية النسبية قد أثبتت نسبية أكثر القوانين افتراضا للموضوعية. من المهم هنا التأكيد على أن النظرية النسبية هي التي قدمت الدليل الرياضي على نسبية القوانين، وإلا فإن عددا من العلماء وفلاسفة العلم قبل آينشتاين قد نظّروا لهذه القضية، نذكر على سبيل المثال أرنست ماخ الذي يقول عنه آينشتاين: "إن جميع فيزيائيي القرن الماضي رأوا في الميكانيك الكلاسيكي شكلا وأساسا لكل فيزياء، نعم لكل علم طبيعة.. وقد كان أرنست ماخ في تاريخ الميكانيك هو الذي هزّ هذه الحقيقة الدوغمائية، ولهذا فقد كان لهذا الكتاب "تاريخ الميكانيك لماخ" تأثير بالغ عليّ شخصيا حين كنت طالبا".(آينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين،صـ13).
القفزة الثانية في الفيزياء الحديثة أنجزتها فيزياء الكم، وهي الفيزياء التي تقوم على مبدأ أن الطاقة لا تنتشر إلا بشكل كوانتم أو كمّات متعددة في الطاقة. ووضع هذا المبدأ ماكس بلانك (1858-1947). استخدم هذا التصور للطاقة لفهم البنية الذريّة والأطياف الضوئية الخاصة بالعناصر الكميّة. خصوصا مع استنتاج بروغلي بأن الجزئيات التي تمتاز بالكثافة تمثل أيضا ظاهرات ضوئية. هناك وصلنا إلى فكرة تقبل طبيعتين (جزيء وموجة ضوئية) للشيء نفسه، وهي إحدى أهم آثار فيزياء الكم. توجهت فيزياء الكم بنظريتها لدراسة مكونات الذرة باعتبارها حزما ضوئية، إلا أن هذا التطبيق لزمه الكثير من النظريات، باعتبار أن النظريات القائمة وخصوصا قوانين الفيزياء الكلاسيكية لم تعد قادرة على التعامل مع المادة بهذا التصور. من أهم هذه النظريات نظرية اللاتعيّن التي أنتجها هيزنبرغ(1901-1976). وهي النظرية التي أتت لتحل إشكال أن الجزيء كان يغيّر من موقعه بمجرد إلقاء أي طاقة عليه من أجل رصده. كانت هذه النظرية تحسب احتمالات، نحن أمام عدد من الاحتمالات لحركة الجزيء كما نكون أمام احتمالات رمي لعبة النرد. بناء نظرية علمية على مبدأ الاحتمال هو أمر جلل. فالحتمية والسببية كانتا هما الأساس العلمي الذي لا يقبل منجز علمي إلا بتبنيه. حتى آينشتاين المعاصر لهيزنبرغ وصاحب النظرية النسبية وقف موقفا عدائيا ضد هذه النظرية، وكان كثيرا ما يردد "إن الله لا يلعب بالنرد". وسنجد لاحقا مع فلاسفة العلم كيف أن هذه النظرية قد هزّت مسلمات علمية يقينية. مبدأ السببية بل وحتى المنطق الأولي الذي لا يفهم أن يكون شيء ما في مكانين في نفس الوقت. الاحتمال هو الحل الوحيد الممكن، وكلما ارتفعت احتمالية صحة نظرية ما كانت هذه النظرية ذات قيمة معتبرة. هنا يكون الشك جزءا من النظرية العلمية، وأصبح شرط اليقينية وعدم وجود فراغات للشك شرطا من الماضي، وهذه هي الفيزياء، العلم الأكثر موثوقية، تتخطاه وتتجاوزه. الذي حدث في بدايات القرن العشرين هو تحول كبير في مسيرة الفيزياء، فقد تقبلت الفيزياء أولا الفروض النظرية والرياضيات، وتخلت عن شرط التجربة، خصوصا في المباحث التي تبدو غير ممكنة التجريب، ثم ظهر عجز الفيزياء الكلاسيكية عن الاشتغال مع الأجسام الكبيرة جدا والصغيرة جدا. ظهرت بجلاء محدودية تصورات الفيزياء الكلاسيكية عن الطبيعة. فهي لم تعرف إلى مستوى محدود من الطبيعة. لكننا صرنا نعرف اليوم مستويات من الطبيعة أكبر وأوسع، أصبحت تحتاج لمعرفة مختلفة ولتفكير مختلف، لم يكن ممكنا إلا بالتخلي عن شروط اليقين والإطلاق. دخل الاحتمال إلى لب النظرية العلمية. وأصبح الشك جزءا من المعرفة العلمية المعتبرة.