هنالك فرق بين الوهم وبين الأمل، الأول أننا نحاول بشتى الطرق، العيش في كنفه الذي عادة ما نكون قد بنينا أسواره بأيدينا، أو شُيد على هيئة سراديب من المفاهيم والصور التي تعطل أي حراك للفكر أو المنطق لدى المستقبل، والثاني يدفعنا كي نستمر ونتحمل كل ما يواجهنا من مصاعب أو عقبات، لأنه مجرب ولو على مستويات مختلفة، خبرة تذوقنا حلاوتها منذ نعومة أظفارنا، من منا لم يكن له أمل ما في هدية العيد أو النجاح في الامتحانات المدرسية أو تحسن أوضاعه الشخصية أو الاجتماعية، أو صلاح أمر شخص عزيز عليه؟ الأمل عشناه على كل شكل ولون، فالأمل يدفع والوهم يُسمر، يجمدنا ويجعلنا نعيش في غيبوبة تكون في أحيان كثيرة بعيدة كل البعد عن الواقع، حاملة بين طياتها الخديعة التي قد تؤدي إلى الدمار.

إن الأمل بناء وتعايش وتقبل، اختلاف واعتراض، تبن ورفض، محاسبة وتسامح، عمل وكفاح، حراك وطاقة، مواجهة ومواقف، اعتماد وتوكل، كرامة وعزة، تفكير اختيار وتقرير، همة واجتهاد، ابتسامة وجه ودمعة عين، انتظار وترقب، الأمل أنا الآن ونحن المستقبل، الأمل وطني ووطنك، أمتي وأمتك، الأمل تركيبة عجيبة من المفاهيم تتشابك في داخل الفرد لتنطلق في مسارات، قد تكون الأهداف أحيانا نرجسية أو خاصة، ولكن حينما تتواجد عند المجموعات تصبح سلاحا لا يستهان به أمام تدخلات الغير والمحاولات للتفرقة والتشتيت.

أما الوهم فهو سم قاتل يجري في داخلنا كجريان الدم دون أن نشعر، فنتبناه ونتعامل معه كأنه الواقع، يصور القبح جمالا والكذب حقائق، يحول الفرد إلى متكبر جبار، إنه الكذب ثم الكذب ثم الكذب حتى التصديق، إنه الهروب والتنافر، إنه الجهل والظلام، إنه التسليم والاستسلام، الجبن والخيانة، هلوسة دون مخدر، ارتفاع دون أسس، إنه دخولنا في وكر الأفاعي مادين أكفة السلام، التصديق بكل سذاجة بأن صديق الأمس لا يمكن أن يتحول إلى عدو اليوم، وكأن البشر لا يتغيرون، متخلين عن الحذر وقراءة واقع الحاضر ودروس الماضي، نشتري الوهم بدمائنا بأماننا بصحتنا، بالتخلي عن حقوقنا، بأموالنا.. وبأموالنا نُدك، إنه تخبط وضياع، تلتف مساراته فتخنق الواقع، لا بل تغتاله، ثم يسقط قناع الحياء فلا أخلاق تهم ولا إنسانية تردع في سبيل تحقيق الأهداف، إنه أن يغرق المرء في ألوان الربيع فلا يشعر بقدوم الإعصار، حين نعيش الوهم فرادى قد نستيقظ على وقع خطوات الواقع، ومنا من يحاول إصلاح ما تعطل وعطب، ولكن حين نعيش الوهم جماعات وأمما نصبح لعبة سهلة في يد من لا يخاف الله فينا، فنساق إلى الهاوية تسبقنا كلمات الشكر واحتفالات المودة والامتنان!

ماذا ينقصنا لنستيقظ ونعيش الأمل معا من أجل بناء الأوطان من أجل بناء الأجيال؟! لماذا نحيد الأمل ونجري خلف الأوهام؟! قد يقول البعض لماذا كل هذا التشاؤم؟! أجيب وهل من يعتدي على ممتلكات الغير تفاؤل، هل أكل أموال الأيتام تفاؤل، هل تصديق الجمال المفبرك لخريجات مسارح عمليات التجميل تفاؤل، هل تصديق رومانسية التمثيليات والأفلام تفاؤل، هل خراب الأسر ودمار الشباب بين هذا وتلك تفاؤل، هل تصديق الفساد على أنه شطارة وذكاء تفاؤل، هل الإيمان بـ "بأنا ومن بعدي الطوفان" تفاؤل، هل إحياء الرهبنة والتصوف في شهر من السنة ثم العودة لأول السطر من سجل ارتكاب الذنوب تفاؤل، هل ظهور الفقراء والمساكين فجأة في هذا الشهر الفضيل ثم اختفاؤهم من حساباتنا وحياتنا لبقية العام...تفاؤل، هل اتهام كل من يختلف معنا بالجهل والتخلف إن لم يكن بالكفر والذندقة تفاؤل، هل التربص لغلطات الغير وتغذية الحقد والسعي خلف الانتقام الشخصي تفاؤل؟! إن كان كل ما ذكرته تفاؤلا فأنا اليوم متفائلة وبامتياز!

ما أراه اليوم أن الكثير يعيش وهم أن ما لدى الغير حق له، بل يراه كعكة يجب ألا تترك دون الانقضاض على شريحة منها، حتى ولو على حساب أخ له في الدم في الدين أو حتى في الإنسانية، سواء على المستوى الشخصي أو الأسري أو الاجتماعي أو أي مستوى آخر، والبعض يرى ويلاحظ ولكنه يعيش واهما بأن ما يجري من حوله لا شأن له به ولن يؤثر عليه، بينما البعض الآخر لا يرى ولا يفهم ولا يريد أن يرى أو يفهم! ما الحل؟ أن نستيقظ وندرك الحقائق كما هي لا كما نريد أن نراها أو يريد الغير أن نراها، الحقيقة قد تكون مرة وقاسية ولكنها كمشرط الطبيب تجرح لتداوي، أن نحاسب أنفسنا أفضل من أن يأتي زمن نجد أنفسنا نحاكم ولا نعلم مدى عدالة من سيحاسبنا من البشر، إن مواجهة مرارة الحقيقة أفضل مئة مرة من راحة الوهم، فالأمر بيدنا اليوم.. وغدا من يعلم!