مناظر القتل والتعذيب على شاشات التلفزيون تقطع القلوب. هذه المشاهد تجعلنا نراجع قيمنا، وطرق رؤيتنا للنفس البشرية. تكررت مناظر تعذيب لا يتقبلها العقل البشري في دول مختلفة. الحروب التي ينتج عنها أسر مدنيين أوعسكريين هي الأكثر إنتاجاً لمناظر الرعب هذه.

استخدمت القسوة غير المبررة في كل الحروب، خصوصاً عندما تكون هذه الحروب بين دول عداؤها طويل الأمد، امتدت فيها الكراهية لتصبح ثقافة شعوب. حكى لنا التاريخ والصور، كيف عذب اليابانيون أسراهم في الدول التي كانوا يحتلونها في القرن التاسع عشر. الحربان العالميتان حملتا صوراً مفجعة لاستخدام أساليب التعذيب النفسي والجسدي، عندما كان المتقاتلون مستعدين لفعل أي شيء من أجل النصر.

نشاهد المزيد في يوميات الثورات العربية. الأكثر غرابة هو حال أولئك الذين تجمعهم مشتركات أسرية وتاريخية وجغرافية. إن كانت الحرب تستخدم في محاولة تبرير السلوك غير الإنساني؛ فإن أحداً لا يمكنه أن يتقبل أو يتعايش مع ممارسات كهذه يستخدمها أخ ضد أخيه، مهما كانت الأسباب. ما شاهدناه من ثقب رؤوس المعتقلين وأجسادهم، والدوس على وجوههم بالأحذية، وركل المعتقلين واستخدام كل أساليب الإهانة بحقهم سلوكيات لا يمكن تبريرها. هذه السلوكيات تحتاج إلى بحث عميق في النفس البشرية لنعرف كيف يتحول إنسان سوي إلى آلة تعذيب وإذلال لأخيه.

أذكر أنني قرأت أثناء دراستي الجامعية عن تجربة علمية مشهورة، هذه التجربة سميت "سجن ستانفورد".

مولت البحرية الأميركية دراسة لأستاذ علم النفس الدكتور زيمباردو. تبرعت جامعة ستانفورد بتقديم موقع للسجن في الدور تحت الأرضي بإحدى كلياتها. تم الإعلان عن التجربة في الصحف للحصول على مشاركين مقابل 15 دولارا كل يوم للمشاركة في (محاكاة لسجن) مدتها أسبوعان. استجاب للإعلان 70 شخصا، اختار زيمباردو منهم 24، كانوا الأكثر ملاءمة من حيث الاستقرار النفسي والصحة البدنية.

قُسِّم المشاركون عشوائياً إلى مجموعتين متساويتين يمثلون السجناء والحراس. فرزوا بالقرعة باستخدام قطعة نقود، ولم تكن هناك أية فروق موضوعية من حيث البنية بين المجموعتين.

تسلم الحراس عصي شرطة، وبزات عسكرية، ونظارات عاكسة لتجنب التواصل البصري مع السجناء. وعلى عكس السجناء تمتع الحراس بدوام على شكل دوريات، يعودون إلى بيوتهم بعد انقضائها، لكن عدداً منهم صاروا يتطوعون أحيانا لساعات إضافية بدون أجر.

كان على السجناء أن يلبسوا رداء فضفاضاً من دون ملابس داخلية وصنادل مطاطية. وقد رمز إلى كل سجين برقم عوضاً عن اسمه، وخيطت الأرقام على ملابسهم، وكان عليهم أن يعتمروا قبعات ضيقة من النايلون لتبدو رؤوسهم كما لو أنها محلوقة تماماً. كما وضعت سلسلة صغيرة عند الكاحل كمنبه دائم على أنهم سجناء.

قبل بدء الاختبار بيوم واحد، تم جمع الحراس لحضور جلسة تمهيدية، لكنهم لم يتلقوا أية خطوط أو توجيهات، باستثناء عدم السماح باستخدام العنف الجسدي. قيل لهم إن إدارة السجن تقع على عاتقهم، وأن لهم أن يديروه كما يشاؤون.

في المقابل قيل للسجناء بأن ينتظروا في بيوتهم حتى يحين الموعد ويتم استدعاؤهم. بدون أي تحذير تم اتهامهم بالسطو المسلح واعتقالهم من قبل قسم شرطة حقيقي، قدم مساعدته في هذه المرحلة فقط من الاختبار.

تم إخضاع السجناء لإجراءات الاعتقال التقليدية بما فيها التسجيل، وأخذ البصمات، والتقاط الصور، كما تليت عليهم حقوقهم تحت الاعتقال. ثم نقلوا إلى السجن المعد للاختبار حيث تم تفتيشهم عراة، ومنحهم هويات جديدة.

سرعان ما خرج الاختبار عن السيطرة، فعانى السجناء واحتملوا ممارسات سادية ومهينة على أيدي الحراس. فبعد اليوم الأول الذي مر دون ما يستحق الذكر، اشتعل عصيان في اليوم الثاني، وتطوع الحراس للعمل ساعات إضافية للقضاء على التمرد. بعد ذلك، حاول الحراس أن يفرقوا السجناء ويحرضوهم ضد بعضهم البعض من خلال تقسيمهم إلى زنزانتين واحدة (للجيدين) والأخرى (للسيئين)، ليوهموا السجناء من وراء ذلك أن هناك مخبرين تم زرعهم سراً بين السجناء.

تحول السجن سريعاً إلى مكان منفر وغير صحي. وصار الدخول إلى الحمامات امتيازا، قد يحرم منه السجين، وكثيراً ما حصل ذلك. وقد أجبر بعض السجناء على تنظيف المراحيض بأيديهم المجردة. وتم إخراج الفرش والوسائد مما سميت زنزانة (السيئين)، وأجبر السجناء على النوم عراة على البلاط. أما الطعام فكثيراً ما حرم السجناء منه كوسيلة للعقاب. لقد فرض العري على السجناء وتعرضوا للتحرش الجنسي والإذلال من قبل السجانين.

مع تقدم التجربة، ازداد السلوك السادي عند بعض الحراس ـ وخاصة خلال الليل ـ حيث ظنوا أن الكاميرات كانت مطفأة، قال المشرفون على الاختبار إن واحدا من كل ثلاثة حراس تقريباً أظهر ميولاً سادية حقيقية.

أخيراً قرر زيمباردو إجهاض الاختبار قبل الموعد. بعد أن ظهرت سلوكيات أكثر إيذاء لم يتوقعها الباحث، بما فيها عصب أعين السجناء، أو إجبارهم على ارتداء ملابس نسائية، وكذلك حرمانهم من ارتداء ملابس داخلية، ومنعهم من النظر عبر النوافذ أو من استخدام أسمائهم.

تقمص الحراس في هذه التجربة شخصيات غير سوية برغم علمهم بأنها تجربة. لقد انتهجوا سلوكيات لا يمكن أن يقبل بها إنسان يؤمن بالقيم الأخلاقية السليمة. كما أثبتت أن الوسيلة الوحيدة لمنع الإنسان من سوء استغلال سلطته على أخيه الإنسان هي الرقابة ووجود العدالة التي تأخذ الحق للمظلوم.

أقرت دول العالم مع ظهور ميثاق الأمم المتحدة، تنظيم وتقنين التعامل مع الأسير والمعتقل. اتفاقيات جنيف التي تحكم تعامل الدول مع الأسرى هي نتيجة للجهود الرامية لإعادة التعامل الإنساني مع هؤلاء. ظهر تطور آخر عندما شكلت محكمة الجنايات الدولية التي يدخل ضمن اختصاصاتها محاكمة مرتكبي جرائم الحرب. دعم كل هذا وجود هيئات للمراقبة والإبلاغ عن التجاوزات، وأهمها جمعيات وهيئات حقوق الإنسان ومنها المفوضية العليا لحقوق الإنسان.

لو علم هؤلاء الذين نشاهدهم كل يوم يعتدون على الإنسانية، ويهينون الكرامة البشرية، أنهم سيحاسبون لما فعلوا ما يفعلون.