لا شك أن أسوأ أنواع نظم الحكم على الإطلاق هو الحكم الدكتاتوري، وأسوأ البلاد تلك التي تخضع لهكذا حكم طوال فترة من الزمن، ولا يمكن مقارنة المستوى الحضاري والثقافي للشعوب الواقعة تحت سلطة الأنظمة الدكتاتورية مع أخرى لا تعيش في ظل هذه الأنظمة أو التي تنعم بهامش من الحرية والديمقراطية، فلا يمكن مقارنة الشعب السوري أو الليبي أوالعراقي مثلا بالشعوب الخليجية، في كل المستويات، لأن دول الخليج من حسن حظها وبما حباها الله من منعة أنها لم تشهد "مهرجانات" الانقلابات الثورية كما شهدتها تلك الدول، ولم تحتضن أفكار الثوريين "القومجيين" الهدامة من أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، ولم تتأثر شعوبها بخطاباتهم النارية الجوفاء، فنأت بنفسها وشعوبها عن مآس وويلات كثيرة كانت في انتظارها لو استجابت لتلك الافكار الخائبة الدخيلة.. والدكتاتورية تجتمع فيها كل الشرور والمصائب الموجودة في الدنيا؛ القحط والفقر والتخلف والبطالة والقمع والقتل والتهجير والفساد بأنواعه، والأمراض بأنواعها، كيفما قلبتها ووجهتها لا تأتي بخير، نحس منذ فجر التاريخ، لم تجلب إلا النكد والخراب، انظر إلى "نيرون" الإمبراطور الروماني ماذا فعل بعاصمة بلاده، أحرقها وهدمها على رؤوس أهلها دون أن يبالي، وماذا خلف "رمسيس الثاني" فرعون موسى لمصر "الطوفان والدم والقمل والضفادع ونقصا من الأموال والأنفس" وهولاكو وجنكيزخان للعالم؛ قلاعا شيدت بجماجم البشر كما يقال، وماذا قدم صدام حسين وحافظ الأسد للمنطقة باسم العروبة غير الدمار والكوارث والقصف الكيماوي.. وثمة صلة وثيقة بين ما تعانيه الشعوب في المنطقة من فوضى وتسيب مع ما شهدته نظمها من سياسات دكتاتورية غاشمة، فلا يمكن حصر ما يحدث في الصومال اليوم من قحط وجوع وتشرذم وقتل فقط بالجماعات المسلحة، بل له صلة مباشرة بالسياسة القمعية التي كان الرئيس الأسبق "سياد بري" يمارسها لعقود طويلة، ولا يمكن فصل ما يعانيه العراق في الوقت الحاضر من إرهاب وفساد مؤسساتي منظم عن القبضة الحديدية لنظام البعث البائد، وسوف يعاني الشعب السوري من آثار الدكتاتورية الأسدية لسنوات حتى بعد زوالها واندحارها خاسئة.
والدكتاتورية كما الديمقراطية وكما أي شيء آخر لها أنواع، وكل نوع فيها أسوأ من الآخر، توجد الدكتاتورية "الناعمة" التي فيها شيء قليل من الليبرالية ونسبة من المرونة الديمقراطية كالنظام الذي كان يقوده حسني مبارك وزين العابدين بن علي، والدكتاتورية الراديكالية "الثورية" كالنظم الانقلابية التي دشنها جنرالات الجيش في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في المنطقة العربية، والتي تحولت بمرور الزمن إلى الدكتاتورية "العائلية" ثم إلى الدكتاتورية "الطائفية" و"الدينية"، وهي من أسوئها وأشدها ضررا على البلاد التي تحكمها، ويمثلها الآن ويرعاها ويدافع عنها بضراوة "بشار الأسد" في سورية، بعد أن مهد له الأب "القائد" الطريق للوصول إليها، وحول نظام الحكم في البلاد بشكل طبيعي وسلس من نظام دكتاتوري "حزبي" و"عسكري" إلى نظام حكم "عائلي"، وجعل سلطة "العائلة" تفوق أي سلطة أخرى في البلاد وخاصة المؤسستين التقليديتين "الحزبية" و"العسكرية". وطوال الفترة التي قاربت الخمسين عاما من هيمنة العائلة على هاتين المؤسستين اللتين كانتا تنبضان بالحياة والحيوية في وقت من الأوقات، وتعتبران من المؤسسات الوطنية المرموقة التي يفتخر بها، استنفدتا جزءا كبيرا من قواهما، وأصبحتا غير قادرتين ـ كما ينبغي ـ على المحافظة على كيان "العائلة" وتحقيق أهدافها, ولذا كان لزاما على العائلة أن تبحث عن مطية جديدة تكون قادرة على الاستجابة لمطالبها الآنية، فلم تجد أحسن وأنجع من المطية "الطائفية" لتركبها على الأقل في الوقت الحاضر لتجتاز المرحلة الصعبة الحالية بسلام.. ومن أجل المحافظة على تفوق "العائلة" التقليدي لأطول فترة ممكنة، ربطها الأب قبل أن يغادر الدنيا بكل مهارة بالطائفة، وجعلها مسؤولة عنها وعن مصالحها، فأي خطر يهدد إحداهما يطال الثاني بشكل أوتوماتيكي، فهما شركاء في السراء والضراء، يعني مصيرا واحدا ومصالح مشتركة في مركب واحد، وإزاء هذه العلاقة المترابطة القوية بين العائلة والطائفة، وسيطرتهما على المؤسسة الحزبية والعسكرية، تكون العائلة الأسدية قد جمعت في طياتها عدة دكتاتوريات في دكتاتورية واحدة، تسقط دكتاتورية فتعمل الأخرى بفعالية وهكذا دواليك، ومن هنا جاءت ضراوتها واختلافها عن الدكتاتوريات الموجودة في العالم العربي..
مهما حاول البعض تجميل الوجه القبيح للدكتاتورية ومحاولة إيهام الناس كذبا أن الدكتاتورية أفضل من الديمقراطية في أوقات كثيرة، أو أن القليل من ممارسة الدكتاتورية "الناعمة" ينفع بلدانا وأخرى ـ مثل العراق ـ لا ينفع معها، إلا فرسان قمع من وزن الحجاج بن يوسف الثقفي أو صدام حسين لقيادتها بالحديد والنار من جديد وضبط إيقاعها المنفلت، فهذا هو الخطأ بعينه، فما جرى لنا ويجري من ضياع وانحراف عن جادة الصواب فمن بنات أفكارهم المريضة، وحكمهم الجائر، وجرائمهم بحق الإنسانية.. فأسوأ أنواع الديمقراطية أفضل ألف مرة من أحسن أنواع الدكتاتورية، رغم أنها لا يوجد فيها أي خير.