-1-

كاد أن يكون سؤالا: لماذا ترفض الثقافة العربية التلاقح مع الثقافات العالمية الأخرى لكي يتم تكوين ثقافة إنسانية واحدة وشاملة، تبشر بالخير والسلام للعالم أجمع؟ من أهم الأسئلة المطروحة على المثقفين العرب عامة على اختلاف مشاربهم، واتجاهاتهم، وأهوائهم.

-2-

لقد حاول المفكر السعودي تركي الحمد أن يجيب عن هذا السؤال، في كتابه الصغير في حجمه، الكبير في مضمونه، وطروحاته (الثقافة العربية أمام تحديات التغيير) عام 1993. ورغم مضي ما يقارب من عشرين عاماً على صدور هذا الكتاب، إلا أن سؤال وجواب هذا الكتاب يتجدد كل يوم. يقول تركي الحمد في كتابه شارحاً أسباب رفض الثقافة العربية التلاقح مع الثقافات الأخرى:

1ـ ظنّت الثقافة العربية بأنها ذات فرادة لا مثيل لها في الثقافات الإنسانية الأخرى. وبشعورها هذا، أصبحت ثقافة متعالية ومُستكبرة، وذات خيلاء طاووسيّة كاذبة. ويعتقد الحمد أن هذا التعالي والاستكبار من أخطر أمراض الثقافة العربية التي يعيقها من التلاقح، والاستفادة، وتبادل الخبرات مع الثقافات الإنسانية الأخرى.

2ـ إحساس الثقافة العربية بأنها ثقافة علوية، وفريدة، وذات خصائص مميزة، غير موجودة في الثقافات الأخرى ـ وهو إحساس خاطئ ومجاني ـ أدى بها إلى التقوقع والانكماش على الذات، وبالتالي أغلق الأبواب أمام هبوب نسائم الثقافات الأخرى. وفي ظني أن رضوخ العالم العربي للاستعمار العثماني طيلة أربعة قرون (1517- 1918)، وانغلاق العالم العربي بانغلاق "الإمبراطورية العثمانية"، وفرضها ستاراً حديداً على العالم العربي والإسلامي، وعزلها عن العالم الخارجي الآخر عزلاً كلياً، هو الذي أدى إلى أن يكون التقوقع سبباً من الأسباب. فيقال إن العرب لم يسمعوا بقيام الثورة الفرنسية 1789، إلا بعد زمن متأخر، نتيجة للحصار العثماني على العالم العربي.

3ـ وجود إشكاليات لم يتم حلها إلى الآن، كما حصل في باقي الثقافات الأخرى، كإشكالية الأصالة والمعاصرة، والحديث والقديم، والإبداع والاتباع، والقدامة والحداثة.. إلخ. ولعل الأحزاب الدينية وعلى رأسها "جماعة الإخوان المسلمين" و"حزب التحرير" الإسلامي، إضافة إلى الجماعات السلفية المصرية التي برزت أخيراً بعد ثورة 25 يناير المصرية، قد لعبت دوراً محورياً في عدم البت في هذه الإشكاليات بما للجماعات الدينية من رصيد كبير في الشارع العربي، كما يظهر الآن.

4ـ يقف المثقف العربي ـ عموماً ـ من الثقافات الأخرى موقفاً أيديولوجياً وأخلاقياً ودينياً. ويرفض الثقافات الإنسانية الأخرى من خلال هذه المواقف. في حين أن الثقافات الإنسانية الأخرى تقف من الثقافة العربية، أو من أي ثقافة أخرى موقفاً ينطلق من "مفاهيم الضرورة، والتكيّف، والبقاء، دون هاجس الصدارة، والسيادة، والنفي". ويضرب الحمد مثالاً على ذلك (ص50)، فيقول إن "النهضة اليابانية التي ابتدأت في "عصر الميجي"، انطلقت وتلاحقت مع الثقافات الغربية الأخرى، دون أن تكون أسيرة مفاهيم ثقافية، كالتي رأيناها في الثقافة العربية. وهي مفاهيم عرقلت حركة النهضة العربية الحديثة. وهذا لا يعني الانفصال المطلق في التجربة اليابانية بين القيم الثقافية الوطنية ومحاولات النهضة. ولكن المعنى منصرف إلى القول إن النهضة اليابانية لم تكن أسيرة المفاهيم بمعنى النظر إليها نظرة ثبوت وسكون وقدسية، وإلا فإن إعادة تشكيل هذه المفاهيم كان أحد الحوافز التي أدت إلى النهضة اليابانية الحديثة".

-3-

يتلاوم تركي الحمد على الثقافة العربية والمثقفين العرب، في رفضهم المطلق للعالم الآخر ومنجزاته، ومنها على سبيل المثال النظام الدولي الجديد. وتلاوم الحمد على الثقافة العربية لم يتأتَ من كونه يدفع بهذه الثقافة إلى الاعتراف بالنظام الدولي الجديد، وقبولها لهذا النظام، وانخراطها فيه. ولكن تلاومه تأتى من رفض الثقافة العربية المطلق لهذا المفهوم، دون إخضاعه للدرس، والتحليل، والنقاش الموضوعي. وهو يدعونا ـ في هذا الشأن ـ إلى فهم وإدراك آليات هذا النظام (ص 69). ويقول لنا ببصيرة الحكيم المرشد إن "مجرد الرفض الأيديولوجي المحض لن يحقق هدفاً، ولن يُجسد غاية. بل على العكس من ذلك يُجذِّر التبعية والدونية. فالمسألة ليست مسألة أحلام ورغبات أيديولوجية محضة، بقدر ما هي مسألة واقع لا بد من التعامل معه أحببناه أو كرهناه. وبناءً على آلياته وقوانينه، وليس بناءً على قوانيننا الذاتية، وتصوراتنا الخاصة." (ص70).

-4-

لقد سبق لتركي الحمد أن أكد هذه المفاهيم في كتابه "دراسات أيديولوجية في الحالة العربية" عام 1992. ثم في كتابه اللاحق "الثقافة العربية في عصر العولمة" عام 1999. ثم عاد في عام 1993 في كتابه "الثقافة العربية أمام تحديات التغيير"، وأكد الحمد أن جمودنا – وليس ثباتنا – جمود جلاميد الصخر هو سبب محوري لتخلفنا، وبؤسنا. ففي حين أن العالم بدأ يسير بسرعة القطار الياباني (فاستيك 360) أما نحن فما زلنا نسير بسرعة السلاحف. والعالم من حولنا لا ينتظرنا، ولا يعترف بعجزنا. من هنا، فإن "العرب يعيشون الآن بين المطرقة والسندان. سندان المفاهيم الثقافية الجامدة ومطرقة العالم المعاصر وحركته السريعة".

-5-

وينتهي الحمد إلى نتيجة حزينة ومؤلمة، وهي أن العرب فقدوا القدرة على تحقيق ما يريدون. ويحاولون – كما يفعلون الآن – الهروب من العالم إلى الماضي. أي الهروب إلى الخلف من الحاضر والمستقبل إلى الماضي ومحاولة العيش فيه، رغم أن هذا الماضي هو لأصحابه الماضويين، ولا يلائم شعوب وجماعات القرن الحادي والعشرين، وافتتاحية الألفية الثالثة.