الحمد لله الذي بلغَّنا شهود شهر رمضان، وأسأله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يعيدكم ومن تحبون إليه عاماً بعد عام، وكرَّات بعد مرات.. شهر رمضان كان فرصةً لي للتعمق في بعض العبارات التي توارثناها حتى ظنناها مسلَّماتٍ، لا تقبل النقاشَ؛ ومن ذلك عبارة: (التخلية قبل التحلية) التي اشتهرت كثيراً بين الناس عموماً، وبين أهل التربية خصوصاً؛ يقصدون بهـا أن البعد عن السـيئاتِ والمفاسـد يكون قبـل فعـل الحسـنات والفضائل، ويدلـلون على ذلك بقوله تعالى: {..فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى..}، ويستشهدون مثلاً بما ذكره الشيخ ابن قيم الجوزية في الدرجة الثانية من المنزلة الرابعة والخمسين؛ من كتابه مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ـ 2/184ـ ؛ قال ـ رحمه الله ـ : "..وأما الأبدان الزكية فهي التي زكت بطاعة الله، ونبتت على أكل الحلال. فمتى خلصت الأبدان من الحرام، وأدناس البشرية، التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا: زكت أرض القلب. فقبلت بذر العلوم والمعارف. فإن سقيت ـ بعد ذلك ـ بماء الرياضة الشرعية النبوية المحمدية ـ وهي التي لا تخرج عن علم، ولا تبعد عن واجب ولا تعطل سنة ـ أنبتت من كل زوج كريم، من علم وحكمة وفائدة وتعرف. فاجتنى منها صاحبها ومن جالسه أنواع الطرف والفوائد، والثمار المختلفة الألوان والأذواق، كما قال بعض السلف: إذا عقدت القلوب على ترك المعاصي: جالت في الملكوت. ثم رجعت إلى أصحابها بأنواع التحف والفوائد.."
شخصياً.. هذه العبارة ـ التخلية قبل التحلية ـ كان يشكل عليَّ فهمها أحياناً بالمعنى المتقدم لها، وهداني ربي لأجد أن هناك من شاركني ويشاركني في نفس التساؤل؛ "إذا كان الإنسـان قبـل أن يتهـيأ لتلقـي الـعلـم الـشريف، علـيه أولاً أن يـكون قـد تطـهـر مـن الغـش، والغل، والحسد، وفساد المعتقد، وسوء الخلق، فماذا بقي أن يستفيـده مـن تلقي هذا العلم؟! وإذا لم يكن العلم هو الذي يطهره من كل هذا، فما جدوى هذا العلم؟!" يقول المولى ـ سبحانه وتعالى ـ : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وفي الحديث يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وهذا يعني أيضاً أن التحلية (قد تكون) قبل التخلية ـ وليس كما ذكر في بداية المقال واشتهر على الألسن ـ فالآية تذكر بوضوح أن التحلي بالإيمان والصالحات والصلاة والزكاة طرقٌ لكسب الأجر والمثوبة، وطرق للتخلي عن المنغصات والمكدرات. والحديث يبين بجلاء أن التحلي بالصوم المبني على ما ذُكر يؤدي إلى التخلي عما مضى من ذنوب. أسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينير بصائرنا، ويصلح سرائرنا، ويرزقنا التفكر والتدبر، ويتقبل منا الصيام والقيام، ويجعل عيدَنا عيداً.
وقفة للتفكر:
"ولو أنا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه، وبدَّعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابنُ نصر، ولا ابنُ منده ولا من هو أكبر منهما، والله هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله تعالى من الهوى والفظاظة". ـ الإمام الذهبي: سير أعلام النبلاء 14/40 ـ .