قبل نحو أربع سنوات وحينما كنت أحاسب في سوبرماركت في الخبر قفز طفل أمامي بيده عصير، رمى ريالا في وجه البائع وخرج منتشيا. من حسن الحظ أنني استطعت اللحاق به خارجا وعاتبته على أسلوبه وعدم اكتراثه بالطابور الذي كان يقف خلفه. سمعني ثم رد وهو يهم بركوب دراجته قائلا: "أنا أكره الانتظار.. أكرهه".

إننا يجب أن نعترف أن هذا الطفل لا يشكل حالة فردية، بل حالة مجتمع. مجتمع لا يقبل الانتظار. مجتمع لا يحتمل الانتظار ويسعى جل أفراده بكل ما أوتوا من قوة وعلاقات أن يتحرروا منه. فماذا سيكون حال هذا الطفل الذي تجاوز الطابور بلا خجل ولا إحساس بالمسؤولية عندما يكبر؟ سيبذل قصارى جهده لكي لا يقف في الطوابير ما صغر منها وما كبر، سيبحث عن أي حلول لكي يتجاوزها والنتيجة مجتمع يعج بالفوضى والمحبطين.

علينا أن ندرك أن الانتظار دائما يأتي متأبطا أنباء سعيدة، فالانتظار ينجب بعد تسعة أشهر طفلا يعطر حياة والديه، كما أن أعظم الاختراعات والابتكارات كانت نتيجة لساعات طويلة من الترقب والانتظار. عدم تعايشنا مع الانتظار حرمنا الظفر بالنجاح.

عاش الألماني يوهان جوتنبرج، الذي اخترع الطباعة الحديثة عام 1447 نحو 17 عاما من التشكيك والتحديات والإفلاس حتى انتزع الاعتراف باختراعه. كان يؤمن أن الانتظار الذي منحه القدرة على تطوير قوالب الحروف في الطباعة عبر الصبر سيمنحه حقه ولو بعد حين. كان يؤمن أن الاستعجال آفة أي مشروع، فكما انتظر طويلا لتجف الأحبار وتظهر نتائج اختراعه صمد أمام الادعاءات والاتهامات، فحصد المجد والتقدير الذي يتزايد يوما بعد يوم حتى بعد وفاته.

كان بوسع جوتنبرج أن يعود لصياغة الذهب، المهنة التي يجيدها وتدر عليه المال، لكنه آثر أن يواصل العمل في مطبعته المتواضعة، منتظرا إنصاف وطنه وأصداء ما عمله بإخلاص. بالفعل لم تنصف ألمانيا وحدها جوتنبرج بل العالم بأسره. فسميت باسمه عدة جامعات في ألمانيا وخارجها، وأطلق اسمه على العديد من الجوائز والمكتبات والمدن، وألفت حول اختراعه مئات الكتب ومازالت. فلو انصرف جوتنبرج عن حبه وشغفه بحثا عن سعادة وقتية لربما كان في طي النسيان. تخيلوا لو أن جوتنبرج أقلع عن مشروعه التحديثي للطباعة إثر الحرب الضروس التي شنت عليه وقلة موارده المالية حينها، ربما لما حصلنا على الكتاب في وقت مبكر، ربما مازلنا نعمل على تطوير الطباعة حتى اللحظة! الانتظار لم يكن شريك النجاح لجوتنبرج بل هو الساعد الأيمن لكل باحث. فنتائج أي تجربة تتطلب شهورا وأحيانا سنوات مديدة قبل أن تختمر وتنضج، وتصبح صالحة للاستهلاك والانتشار والنجاح.

الانتظار لعب دورا رئيسا أيضا في نجاح أحد أهم صناع الأفلام في السينما الأمريكية، ويليام أوليفر ستون، الذي التحق بالجيش الأميركي في فيتنام. فقد كان (ستون) قبل خوضه التجربة العسكرية مجرد طالب لم يستطع إكمال دراسته في جامعة ييل العريقة، لكن تجربته التي خاضها في فيتنام فتحت له الآفاق. فقد كان ينظف مخيمات الجيش الأميركي في فيتنام قبل أن تسند له مهام ميدانية، واستثمر (ستون) هذه المهام المختلفة في تدوين حياة الجندي الأميركي في هذه الحرب الجدلية، من خلال لقاءات ورصد للحياة الشائكة والظروف النفسية الصعبة التي يعيشها مع أقرانه. وعندما نما إلى مسامع بعض الصحف الأميركية أن (ستون) يعكف على مشروع تأليفي عرضوا عليه مبالغ طائلة لنشره على حلقات. لكن ستون آثر أن يحتفظ بما كتب لشيء لا حق. لم يكن يعرف ما هو هذا الشيء اللاحق. بيد أنه مؤمن أن هناك شيئا أجمل في انتظاره. انتظار (ستون) كان في محله. بعد مفاوضات ومد وجزر مع منتجين أميركيين استطاع (ستون) أن يقدم ثلاثة أفلام تحتوي على رؤيته عن فيتنام: "بلاتون"(1986)، و"بورن أون ذا فورث أوف جولاي"(1989)، و"هافين أند إيرث" (1993)، حققت هذه الأفلام نجاحا باهرا ووهبت ستون النجاح والانتشار والأوسكار.

إن الشعوب الغربية لا تتفوق علينا في قدراتها الذهنية وإمكاناتها العقلية والفكرية، لكنها قطعا تتفوق علينا نفسيا، إذ إنها تنسجم مع الصبر والانتظار فتحصد الانتصار.

عندما نتحلى بالصبر ونتصالح مع الانتظار سنجني شهدا وعنبا وبهجة. يقول الشاعر ماجد الخياط:

اصبر قليلا وكن بالله معتصما

ولا تُعاجل فإن العجز بِالعَجَلِ

ثمة مشكلة كبيرة تواجهنا كعرب تتمثل في الضجر والملل بسرعة، مما يجعلنا نتخلى عن أحلامنا ويحرمنا من تحقيق النجاح. هذا النجاح الذي نسمع عنه ولا نلمسه. فمن لا ينتظر لا ينتصر.