في اللحظة التي همّ فيها بركوب قطار "الترام"، انتبه إلى سيجارة بين أصابعه.. فكان عليه أن يختار بين أن يركب بالسيجارة، وبين أن يرميها على الأرض.

وفي مدينة متحضرة جداً مثل جنيف يبدو كلا الخيارين مستهجناً وقبيحاً. فما كان منه إلا أن يتصنع تصرفاً ذوقياً؛ فهرول إلى برميل نفايات عند منطقة انتظار الترام؛ وفرك السيجارة في منفضة؛ وعاد مهرولاً إلى القطار.. لكن هذا الأخير لا يعترف بمشكلة مدخن قادم من الشرق الأوسط.. سار القطار في طريقه.. تاركاً أثر التبغ بين أصابعه.!

ترتيب حياة

حين يفوت قطار العاشرة صباحاً في محطة "ناسيون"، فلا بأس. هناك قطار آخر في العاشرة وخمس دقائق. وما على من يفوّت القطار الأول إلا انتظار القطار الثاني الذي سوف يأتي في وقته تماماً، ليتوقف 15 ثانية فقط، ثم يُكمل رحلته ضمن خارطة سير مبرمجة ضمن شريان نظام مواصلات المدينة السويسرية الأنيقة. وسكان المدينة، مواطنين ومهاجرين وسُيّاحاً، يستفيدون من هذا النظام الدقيق في حركته وتوقفه، ويستخدمون وسائط النقل العامة ضمن آلية لا تعرف إلا الالتزام الحرفي بالوقت. وعلى الجميع أن يرتبوا حياتهم على هذا النظام الذي لا يتدخل فيه البشر إلا من زاوية واحدة فحسب؛ زاوية الالتزام به لا غير.

قد يبدو الأمر تقنياً صرفاً في نظام حركة الترام، لكنه ليس كذلك حتى في حافلات النقل العامة. ففي منطقة ناسيون، حيث تتجاور مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة، هناك محطات حافلات مبرمجة بالدقيقة. وذات ظهر بارد توقفت مجموعة من الشبان العرب في انتظار حافلة تأتي في الثانية و12 دقيقة بالتمام والكمال. كان جدول الرحلات المعلق في المحطة مسؤولاً عن بياناته. لم يذكر الجدول الساعة الثانية و5 أو 10 أو 15 أو 20 دقيقة، أو أياً من الأرقام التي نذكرها جزافاً وارتجالاً. بل حدد الجدول الساعة الثانية و12 دقيقة وقتاً لوصول حافلة يقودها إنسان، ويتطلب خط سيرها التوقف في محطات أخرى وفي إشارات مرور وعند ممرات مشاة.. وعلى الرغم من ذلك وصلت الحافلة في الوقت المحدد تماماً بلا دقيقة واحدة من التأخير.

حين يحترمك النظام

على نحو من الأنحاء تبدو قصة الإنسان السويسري، تماماً كما تعبر الساعة السويسرية عن أدائها. إنها قصة عقارب الساعة التي حولت الناس إلى قوائم يومية من المواعيد والمواقف والمحطات، وتدور هذه القائمة في دائرة الوقت بالتزام تام. وفي نظام المواصلات العام بالذات تتأكد هذه الآلية البشرية المبرمجة على حساب لا يتدخل فيه أحد. وعلى خلاف كثير من المدن الأوروبية الدقيقة أيضاً، تنام جنيف مبكراً وتصحو مبكراً. وعلى الرغم من كون هذه المدينة موقعاً أممياً يجمع حشوداً بشرية قادمة من كل قارات العالم؛ فإن ما تطلبه المدينة من سكانها، قبل المهاجرين والسياح، هو احترام ثقتها فيهم. وبصيغة أخرى يعبر عنها الدكتور نزار عبدالجبار، وهو مهاجر سوداني في سويسرا منذ 18 عاماً، فإن الثقة في النظام السويسري تُمنح للناس قبل أن يكتسبوها. ويتمثل الدكتور عبدالجبار بنظام "تذاكر المواصلات" في المدينة الذي يقوم على شراء تذكرة مفتوحة ذات مدة محددة. وبموجب التذكرة يجوز لمستخدمي الترام وقوارب البحيرة التنقل بلا أجور إضافية. وتصل الثقة إلى حد ألا يسأل أحدٌ أحداً عن تذكرته. مجرد إقامته في المدينة تمنحه الثقة، وبإمكانه أن "يغش" ويركب وسائط النقل حتى بعد انتهاء مدة التذكرة من دون أن يُتهم بتجاوز النظام. هذا ما يقوله الدكتور عبدالجبار الذي يوضح أن "الحال ينقلب رأساً على عقب حين يُكتشف الغاش في حملة تفتيش نمطية. يضيف "في هذه الحالة سوف يُعامل معاملة مختلفة، فتُفرض عليه غرامة باهظة، وقد يخسر فرصة دخوله البلاد إذا تأكد سوء قصده وتعمده استغلال النظام". يضيف "ينطبق ذلك على المهاجر المقيم بالدرجة نفسها التي تنطبق على رئيس الوزراء الذي يحكم البلاد بمساعدة ستة وزراء آخرين".

هكذا ببساطة يقولها عبدالجبار "النظام يحترمك فاحترمه"، و"يضمن لك أن تعيش آمناً في مدينة آمنة". والكلمة الأخيرة لها ترجمة عملية في حالة عاشها ثلاثة من الخليجيين عند مركز صرف عملات في سوق المدينة.. ما حدث هو أن أحدهم اشترى فرنكات سويسرية من المركز. وبعد قرابة 200 متر من المركز تذكر المشتري أنه نسي محفظته بكل ما فيها عند الصراف.. عاد الثلاثة ركضاً إلى المكان؛ فوجدوا طابوراً أمام "كاونتر" الصراف ومحفظته مكانها.. لم يمسها أحد..!

ويعلق عبدالجبار على الحالة بقوله "ذلك ينطبق على تركك حقيبة فيها مليون فرنك هنا"، مشيراً بإصبعه إلى عتبة معهد جنيف لحقوق الإنسان، ثم أضاف "لو تركتها وعدتَ غداً فسوف تجدها مكانها، أو لدى مكتب الاستقبال".

إسلام بلا مسلمين

قد يبدو هذا الإعجاب مبالغة ذات مغزى بلاغي مشوش بالمقارنة بين الشرق والغرب. الشرق الذي قال عنه المفكر الإسلامي محمد عبده إنه وجد فيه "المسلمين ولم يجد الإسلام" مقابل الغرب الذي وجد فيه "الإسلام ولم يجد المسلمين"، ضمن إشارته الشهيرة إلى حياته بين الشرق العربي والغرب الأوروبي. لكن الإقامة القصيرة في جنيف تكشف عن وجود علاقة حقيقية بين عقارب الساعة الدقيقة وبين نظام الحياة الأكثر دقة. هذه العلاقة تقوم على "الالتزام الأخلاقي" بالحق العام الذي لا يتعارض مع الحق الشخصي، ولا يجوز له أن يتعارض معه، بتأثير ثقافة تستوعب الجميع تحت مظلة واحدة هي القانون الذي يمنح الأطياف البشرية المتناقضة في ثقافاتها وخلفياتها الدينية والعرقية حق الحرية المسؤولة. وهذا ما يجعل من جنيف، بالذات، مدينة الحكومات العالمية والمعارضات السياسية الدولية والأحزاب الهاربة والمنظمات المختلفة مع حكوماتها.. والقانون، وحده، هو الحاكم لكل المتناطحين.

عقارب زمن القانون

وكما يختلف عقرب الساعات عن عقربي الدقائق والثواني وعقارب العد التنازلي في دائرة الساعة؛ تختلف الوجوه والسياسات والأيديولوجيات؛ ويذوب الجميع في اتجاه زمن واحد.. هو زمن القانون. ولذلك؛ يجيبك صاحب المطعم التركي القريب من بحيرة جنيف الساحرة بأن اللحم الذي يبيعه في مطعمه "ليس حلالاً" بكل وضوح. وبكل أريحية يدلك على مطعم آخر يقدم لحوماً مذبوحة على الطريقة الإسلامية. وبمستوى الصدق والوضوح ذاته ينتقي لك بائع "السوبر ماركت" أنواعاً من الشوكولا السويسرية الفاخرة الخالية من الكحول؛ حين يعرف أنك مسلم.

في مثل هذه البلاد لا أحد يحتاج إلى أن يغشك أو يخدعك أو ينافق أحداً فيما يريد وما لا يريد. والذين يذهبون إلى مساجد الجمعة، أو كنائس الأحد، لا شيء يأخذهم إليها إلا الرغبة الذاتية المحضة في التعبد، وسلوك الطريق إلى الله متروك للإنسان نفسه، وهو ـ وحده ـ الذي يُقرر ما يفعل بإرادة حرة غير خاضعة لأي نوع من أنواع الضغط الاجتماعي.

هكذا يفكر السويسريون، وهكذا يطلبون من الآخرين أن يفكروا. ومحور التفكير هو القانون الذي لا يميز أحداً عن أحد، ولا يُعطي الثري حقاً لا يمكن إعطاؤه للفقير. وتعرف الصحافة السويسرية جيداً قصة رئيس الوزراء العربي السابق الذي اشترى قصراً مطلاً على بحيرة المدينة. وقد تطلبت تعديلات حديقة القصر إزالة شجرة معمرة تقع داخل ملكية السياسي الكبير حتى يتسع المكان للمواكب والضيوف. لكن المدينة رفضت اقتلاع الشجرة، ودخلت القضية دهاليز الإجراءت المعقدة إلى أن انتصرت شجرة على رئيس وزراء دولة صديقة. والسبب هو أن القانون هو القانون، ليس إلا.

التزام أخلاقي

القانون نفسه الذي يحمي حق شجرة، هو نفسه الذي يحمي حق الفرد وحق الآخرين. والقانون يمثل التزاماً أخلاقياً. وإزاء هذا الالتزام قد تلفت نظرك سيدة عجوز تسير مسافة ستين متراً بمحاذاة شارع لتصل إلى منطقة عبور المشاة لتستخدم "حقها" في عبور الشارع، على الرغم من أن بإمكانها أن تعبر الشارع من أية نقطة شاءت. لكن التزام العجوز بالقانون فرض على السائقين الالتزام به أيضاً بالتوقف حين عبرت من خطوط المشاة.

والالتزام ذاته يتحقق في مشهد عامل النظافة الذي يبدو أنظف من عامل مطعم لدينا. حيث يقف هذا العامل بثيابه النظيفة أمام مجموعة من البراميل ليرفع النفايات بهدوء وانضباط. ولأن الناس يتمتعون بحس عالٍ في التعامل مع نفايات منازلهم؛ وحس أعلى في احترام البيئة؛ فإن في كل برميل نوعاً من النفايات.. الورق.. الزجاج.. البلاستيك.. مخلفات الطبخ.. كل نوع في برميل، وليس على عامل النظافة إلا أن يكون جزءاً من مشروع إعادة التدوير احتراماً للطبيعة وللبيئة.