إنها من أعظم الحكم. مازلت أذكر صديقي أبو عبدالرحمن وكان مديرا في مشفى كبير في القصيم وهو يردد نفس العبارة لي في لحظة صعبة.. ألست من يقول هذه العبارة: "لا تستبد بك اللحظة فهناك ما قبلها وما بعدها"؟ قلت له صدقت. حين يتعرض الإنسان إلى أوقات صعبة كالتي نمرّ فيها هذه الأيام عليه أن يكرر هذه العبارة جيدا، وأن هذه الظروف الحاسمة والأيام الحبالى يكتب فيها التاريخ، وسوف تصبح في ظهرنا ولكن مع بصماتها على جلودنا.. نحن الآن نكاد نتسمم من الحرب الإذاعية والأخبار المرجفة، والمعلومات المشوهة، وتلك التي تقلقنا عن أوضاع بلد وبلد. ولذا علينا أن نتذكر أن الحياة تمضي بطريقتها، وأنها لا تقف ولن تقف عندنا بالتأكيد. أذكر وأنا عائد من صلاة الصبح مع زوجتي رحمها الله تعالى حين وقفنا مذهولين أمام تفتح الورد عند عتبة البيت، وكانت القوات الأميركية تضرب العراق يومها ونحن في القصيم. قلت لها يد الله فوق أيديهم.. هناك يقتلون وهنا الزهر يتفتح غير آبه برائحة الموت أم ماذا؟ هنا تعمل العناية الإلهية مع كل أخبار الحرب. هنا تذكرت شعر "جوته" ذلك الذي جاء في أول كتاب تجديد التفكير الديني لمحمد إقبال؛ أن الكل منشغل بعذاب وفي السماء هدوء وجمال.. تذكرت أيضا أيمانويل كانط الذي أوصى بكتابة فقرة من جملتين جميلتين على قبره: شيئان يملآن قلبي بالإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في ضميري.
إنها نصيحة عملية جدا. ربما أتذكر في هذا السياق قصتين تفيدان في تعميق السلوك العملي، حين يعيش الإنسان ما نعيشه من ظروف عجيبة. الأولى عن قصة الصراع العربي القديم، حين نقل خبر مقتل كليب على يد جساس، والفارس المشهور الزير أبوليلى المهلهل ينقل له الخبر فيقول: اليوم خمر وغدا أمر.. ومما ينقل عن تشرشل أيضا حين بلغه خبر هبوط نائب هتلر بطائرة خاصة سرا على الأرض البريطانية، وكان يرى كل يوم بعد الظهر فيلما جديدا، فقال تابعوا الفيلم ونرى الرجل لاحقا.. أيضا ربما نفس القصة عن الملكة اليزابيث الأولى حين نقل لها خبر انطلاق الأسطول الإسباني الأرمادا الذي تعب الملك فيليب في بنائه ثلاث سنين، من أجل احتلال بريطانيا وإعادتها إلى الكثلكة، تابعت لعب الجولف، وعلق القرصان ديراك: إننا سوف ننتف ريشهم مثل البط.. شاهد من هذه القصص أن على الإنسان الذي يعيش الأيام المدلهمات والليالي الصعبة يجب أن يكرر هذه العبارة الخالدة ويحفرها في اللاوعي: لا تستبد بك اللحظة فهناك ما قبلها وما بعدها.. إن كل حدث هو في علاقة سببية بين ما قبله وما بعده، فهو نتيجة لما قبله وهو سبب لما سيأتي بعده.