يعرفه الكثيرون، ولا يعرفونه؛ يعرفونه بوصفه مذيعاً حقيقيّاً، ذا أدواتٍ لغويّة وصوتيّة ممتازة، ويعرفون أن اسمه "ماجد الشبل" وحسب، ولا يعرفون أنّ اسم هذا الماجد رسميّا: محمد بن عبدالله الشبل، فقد سمّاه والده محمدا، وسمّته والدتُه ماجداً، وتوفي والده مبكّراً، فبقي له الاسم الذي اختارته له أمّه، ليشتهر "ماجد"، ويبقى "محمد" في الأوراق الرسمية.
الذين يعرفون هذا الماجد، لا يعرفون أن أصله يعود إلى مدينة عنيزة، بمنطقة القصيم، حيث هاجر والده مع "العقيلات"، وهي قبائل نجديّة نزح جزءٌ كبيرٌ منها إلى الشام، ثم أقام في دمشق، حتّى توفاه الله فيها، حيث دُفن، ولذا فإن قلب ماجد مشطورٌ، يتنازعه حبّان، أحدهما للشام، والآخر لنجد، وهو القائل: "نجدُ أبي ودمشق أمّي وكلاهما شكّل شراييني وأوردتي"، وحين سأله سائل: إلى أي المكانين يميل قلبُه؟ أجاب السائل بالسؤال، قائلاً: "وهل تحب عينك اليمنى أكثر من اليسرى؟".
الذين يعرفون هذا الماجد، لا يعرفون أن والدته تنتمي إلى عائلةٍ سورية كريمة، اختارت المقام في الرياض، حتّى توفّاها الله، حيث دُفنت، ولا يعرفون أنّه ليس لهذا الماجد من الأبناء إلا ابنةٌ واحدة، وأن كنية "أبو راكان"، ليست إلا كنية شهرة، وحسب، لتكون نظيرةً لـ "ماجد".
ماجد الشبل، مذيعٌ سابقٌ لعصر الرداءة الإعلاميّة، وأزمنة ازدحام الوجوه على صفائح الشاشات، له صوتٌ يشبه انهمار ماء النهر في شلالٍ ليس به عوج، يتدفق على الأسماع، فيصير موسيقا طبيعية، كتلك التي نستلذها في خرير الماء، أو حفيف الشجر، وله لغةٌ كالمرآةِ في صفائها ونقائها، فلم يكن يلْحن أو يتلعثَم كمذيعي "الإف إمّات"، ومذيعات القنوات.
كان يقرأ الأخبارَ فيشعر السامعون أنه من يصنعُ "أحداث العالم" حين كان يطلّ علينا كلّ يوم جمعة، ليقدّم لنا ملخّصاً لأحداث الأسبوع، يجعلنا نشعر معه بأننا لا نستمع إلى أخبار، وإنما نتنقّل بين أحواض الأحداث، حوضاً حوضاً، وما ذاك الشعور إلا لأنه يؤدي الأخبار أداءً أخّاذاً، بنَفَسٍ مسترسلٍ لا تصدأ أطراف الكلام بتقطّعه.
أمّا حين يقرأ الوثائقيات فإن المشاهدين أمام معزوفةٍ استراحت في نغماتها الحضارات، حتّى تأتي المعلومة المعرفيّة منها، وكأنها صورةٌ من صور الغيب، وما ذاك إلا لأنه يدري ما يقول، قبل أن ندري عنه.
كان يدير الحوارات، فيجعل المتابعين يقرؤون فصولاً طويلةً من كتبٍ عتيقةٍ، بها يرسم الدرب إلى الأفق البعيد، والوعي الجديد، فيجعل من مهنة المذيع عملاً خارقاً، لا يجرؤ على الاقتراب منه إلا الراسخون في اللغة والثقافة والإحساس، ويقدّم برنامج المسابقات "حروف"، فيجعل من المعرفةِ حماساً متقداً، ويأخذنا إلى مبتعثينا، أو يأخذهم إلينا في "أبناؤنا في الخارج"، فيسبق عصر الاتصالات والمعلومات.
ماجد الشبل، في "همس النسيم"، كان يؤدي قصائد المجنون والزركلي وابن الرومي، فينقيها من الشوائب، حتّى تصير شعراً مصفّى.. فلا يملها السامعون، ولا يجافيها من ليست لهم بالشعر صلة، بل إنّه يحبّب الشعر إلى القلوب التي تتجافى تجاويفها عن القصيدة، حين يجعل منها حمائم تغني للحنين، أوصقوراً تهزّ في الوجدان أركان الحماسة، ولا تستغربوا إن استمعتم إليه وهو يجعل من القصيدة ورقة توت، أو غصن ريحان، أو زنبقة في مزهريّة فاخرة، لأنه يمزج ماءَ القصيدة بشمس صوته، فتصبح القصيدة دفئاً في الجبال، ونسمةً في السهول، وغيمة فوق الصحارى.
يعي ماجد الشبل الفارق النوعي الكبير بين مهنة الإعلام، وغيرها من الوظائف، فيقول: "يصلح حرف الدال لأي مجال، ما عدا الإعلام، إن كنت إعلامياً فإن ذلك يُخلق في داخلك قبل أن تنتهي دراستك الابتدائية".
ماجد الإنسان، هو من يروي عنه زملاؤه أنه كان ـ في بعض الأوقات ـ يقدم نشرات الأخبار، ويخرج من الأستوديو، ليلعب الكرة مع مجموعة من الأطفال، في شارع الخزّان، الذي يقع خلف مبنى التلفزيون.
في عام 1999، أصيب ماجد بـجلطتين أثرتا عليه كثيراً، وتسبّبتا في شلل بعض أجزاء جسمه، لتعتلّ صحته، فيلزم بيته، متنقلاً بينه وبين المستشفيات، وليس له منّا إلا الدعاء بالشفاء.