عادت بي أحداث لندن إلى قصة رادني كنج الأميركي من أصول أفريقية، التي تسببت في أحداث لوس أنجيليس في الولايات المتحدة الأميركية الساعة الرابعة مساءً من يوم 29 أبريل من 1992م عندما اتهم أربعة من رجال الشرطة بإنزاله من دراجته النارية وضربه.. وثبتت براءته بعد ذلك.. ونتج عن ذلك أحداث شغب تسببت في مقتل العشرات وجرح الآلاف، وخسائر في الممتلكات بلغت حوالي نصف بليون دولار.. كشفت تصرفات غوغائية من قبل المشاركين في تلك الأحداث، وتكرر هذا المشهد هذا الشهر في أحداث لندن.. ورأينا تصرفات هوجاء من قبل المشاركين في تلك الأحداث، وتخريبا وإشعال حرائق ونهبا وسلبا للمحلات والممتلكات مما لا ينم عن رقي ولا يكشف وجهاً حضارياً أو ما نعرفه من وجه مشرق للمجتمع الغربي.. ومع ما جرى ويجري الآن في بعض البلاد العربية وتحديداً في تونس ثم في مصر وليبيا واليمن رأينا العكس تماماً في تصرفات الشعوب في ما اصطلح على تسميته بـ "الربيع العربي" تعبيراً عن الاستياء، لكن بطرق حضارية ومسالمة، عن طريق تجمعات ورفع شعارات بالمطالب.. بالرغم من أن أعداد المحتجين في احتجاجات "الربيع العربي" كان بالملايين، وكان يمكن أن تكون عملية السلب والنهب وإشعال الحرائق والشغب أكثر سهولة نظراً لارتفاع عدد المحتجين..
إذاً، دول متحضرة ولها وجه مشرق في المدنية تحتج شعوبها بغوغائية وتنهب وتسلب، ودول عرفت اصطلاحاً بـ (العالم الثالث) تحتج شعوبها بطريقة حضارية.. إنها فعلا مسألة تدعو للتأمل.. ما هي الأسباب يا ترى؟
الأنظمة؟ لايُعتقد ذلك، فأنظمة تلك الدول واضحة وصارمة.. وفي دول "الربيع العربي" لا أنظمة واضحة، ولا تكريس لتطبيق ما فيه من أنظمة.. إذاً هل لأن للشعب اليد العليا في دول الغرب نتيجة ديموقراطيته مما جعله أكثر سطوة بدرجة لا يستطيع النظام قمعه بوحشية، ولأنه يعرف ذلك كانت تصرفاته بالشكل الذي رأيناه؟ وبالمقابل.. هل لأن للأنظمة في دول "الربيع العربي" اليد العليا وتستطيع القمع والتصرف بوحشية ولأن الشعوب تعرف ذلك فهي تخاف على نفسها وتتصرف بشكل حضاري؟ ربما..
إن تشابه حالات الشغب في دول الغرب التي رأينا مشاهد التخريب والعنف والاعتداء والنهب وحرق الممتلكات التي تكشف عن وجه غير حضاري في دول متحضرة ومتقدمة لأمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب.. في الوقت الذي حظيت فيه احتجاجات وتصرفات شعوب دول "الربيع العربي" بالإعجاب والتقدير، وأعطت صورة حضارية لتلك الشعوب، بالرغم مما تلقاه تلك الشعوب من قتل وكبت وقمع من قبل أنظمتها العربية القمعية، إلا أن تلك الشعوب مازالت مصرة على وجهها الحضاري وتصرفاتها الرائعة المشرقة وسلوكها السلمي.. هذه الشعوب تستطيع أن تواجه بالسلاح، لكنها لم تفعل بالرغم من توفره عند بعضها، وبالرغم من الفكرة السائدة عند الكثيرين عن تدني مستوى ثقافة بعض دول "الربيع العربي" وتوفر السلاح بشكل كبير، ومن تواجده فعلاً بين أيدي المواطنين..
هذا الأمر يدعو المراقب الذي يريد أن يقارن ويحلل بين ما يجري في الغرب وما يجري في بعض الدول العربية لأن يتساءل: إذا كانت شعوب الدول العربية تتمتع بهذا الوجه المشرق.. وتتمع بعقول تتصرف بشكل حضاري ويضمن لها مستقبلا مضيئا.. فلماذا إذاً هي متخلفة عن شعوب الغرب الذي يتمتع بمستوى مدني متقدم في جميع المجالات؟ والفرضية التي تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى هي أن السبب في تخلفها هو الأنظمة التي تحكمها، وهذه فرضية تتطلب اختباراً، إنما ما هو مؤكد هو أنه لا يمكن لأي أمة أو شعب أن يتقدم في ظل أنظمة قمعية، وفي ظل عدم امتلاك الشعوب لزمام أمورها، هذه حقيقة لا تقبل الجدل.. ولعل الأحداث التي تجري في الغرب وفي دول "الربيع العربي" تدلل على ذلك.
في دول "الربيع العربي" الشعوب تمارس حقها فتُقمع، وشعوب الغرب تترجم ما تريده بشكل غوغائي فتُسمع، في الغرب تظهر الأنظمة تصرفات منضبطة.. واعية حكيمة.. لأنها تمثل الشعب، فالشعب هو السلطة، بل هو سلطتها. بينما في دول "الربيع العربي" تتصرف الشعوب بشكل منضبط واع وحكيم، وتُقابل من قبل الأنظمة بشكل غوغائي وشرس، وغير حضاري وغير حكيم.. لأن تلك الأنظمة تمثل نفسها ولا تمثل الشعوب، لهذا فهي أقوى منه، في الغرب الأنظمة تستمد القوة من الشعب، فهي قوية ومتمدنة ومتحضرة، وتتصرف عند أي حدث بشكل متمدن.. وفي دول "الربيع العربي" الأنظمة ضعيفة مدنياً وحضارياً وسلوكياً، لأنها تستمد القوة من نفسها، وهي دائماً تعيش في حالة خوف وذعر ولهذا تتصرف عند أي حدث بشكل وحشي.. أثبتت أحداث "الربيع العربي" أن الشعوب العربية أكثر تحضراً في سلوكها وممارساتها، وأكثر عقلانية في أصعب الظروف وأحلكها، فهي تمارس السلم في وقت عصيب تميز بالقمع والقتل.. وأثبتت الشعوب في الغرب بشواهد وأدلة وأمثلة أنها أقل تحضراً في فكرها بتصرفاتها غير المسؤولة، والمتمثلة في القتل والنهب والسلب بهدف التعبير عن مطالبها.
"الربيع العربي" كشف بحق وجه شعوبنا العربية المسلمة المسالمة، التي تؤمن بحق بالسلم وتدعو للسلام.. وهي في ذات الوقت صاحبة دين عظيم وعقيدة متميزة، تدعو للقيم والمثل والأخلاق والممارسات السامية.. تحيتها السلام.. تدعو للتسامح والتعايش والسلم حتى من يواجهها بالقمع والقتل..
وشعوب الغرب التي تتشدق بالتمسك بما تسميه القيم العالمية، المحبة والسلام والتسامح، تتصرف بكل أشكال الضد لهذه القيم.
أذلك بداية حقبة زمنية جديدة متغيرة المعالم مختلفة القوى.. متبدلة المراكز؟
الله وحده أعدل وأعلم.