في المقال السابق كنا قد مهدنا إلى هذا المقال "نظرياً" حول سلطة التاريخ، وقضية تداخل التاريخي بالديني أو تداخل التاريخي بالأسطوري، وإشكالية الرؤية الأيديولوجية أو المذهبية في قراءة التاريخ ومحاولات التبرير وإعادة إنتاج الحدث التاريخي، الأمر الذي أعطى بعداً مثاليا للماضي برمّته حتى عند أكثر لحظات التاريخ إشكالية وتوتراً وانسياقاً في التأسيس للمجال السياسي على المجال الديني، رغم أن الديني كان سابقا في كثير من العصور على السياسي، ورغم صعوبة الفصل أحيانا بين ما هو سياسي عما هو ديني حتى في لحظات التأسيس للمجال الديني إلا أن ذلك لا يمنع الدرس التاريخي من محاولة تحديد أطر الحدث التاريخي وفصل إشكالياته من خلال قراءة الحدث بوصفه حدثا تاريخياً، أي نزع القدسية عن الماضي وتحرير الديني من السياسي أو تحرير السياسي من الديني؛ على الأقل فيما يخص الدرس العلمي أو الثقافي.

وتبرز إشكاليات التبرير والرؤية المثالية للماضي، كلما كان اتصال الحدث التاريخي بالرؤى الدينية، وصعب معها فصل ما هو ديني عما هو سياسي، وهي طبيعة التاريخ العربي بكامله، ويكون أكثر إحراجاً إذا أمعنا البحث في القرن الأول من الإسلام كونه القرن الذي اختلطت فيه الكثير من الأحداث التاريخية بالمجال الديني؛ بل كان المجال الديني حاضراً بقوة في الحدث التاريخي رغم وضوح تاريخيته في بعض الأحيان، لكن الإقحام الديني كان أحد أهم الأسس التي يمكن من خلالها تبرير العمل السياسي أو الحدث التاريخي، ومن هنا (ربما) نشأت فكرة التبرير، أو تحديدا، القراءة الدينية داخل الحدث التاريخي وتأسست عليه من خلال استخدام الديني بالسياسي، ولعل مفهوم "الخلافة" نفسه يجمع هذه الإشكالية بحيث يتداخل بين مفهوم الديني والتاريخي في نفس الوقت، ومع سقوط مفهوم الخلافة في العصر الحاضر إلا أنه قد صبغ الفكر العربي بمجمله حتى تاريخنا الذي لا يمكن أن نجد فيها إعادة لمفهوم الخلافة إلا عند بعض حركات "الإسلام السياسي" وهي أقرب إلى رؤى انفصالية منها إلى تكوين رؤية مقنعة في إعادة مفهوم الخلافة، لكن مع ذلك فقد بقي حضور الديني في السياسي حتى في أكثر الدول العربية علمانية ورادا وبقوة، إذ سرعان ما يتم الارتداد إلى الديني واستغلاله لتبرير الكثير من القضايا السياسية.

تأتي القراءة للتاريخ أو بالأصح محاولات "التأرخة" في العصور اللاحقة متأثرة بالفكر السائد، أي أنها محاولة لإعادة إنتاج التاريخ وفق الأفق الأيديولوجي المهيمن. في المقال السابق قلنا: إن "الوعي الذي تشكل من خلال الرؤى الأيديولوجية أو المذهبية لا يمكن له أن يكون محايداً لأنه وعي تبريري، أو وعي انتقائي، يحاول التبرير التاريخي للكثير من قضاياه، أو ينتقي ما يمكن أن يتماشى مع إطاره الفكري أو الثقافي بشكل عام لأنه في أساسه وعي جاء نتيجة لهذا التاريخي، ومن الصعوبة بمكان التخلي ولو من أجل الدرس البحثي عما أنتجه التاريخ في الشعور الجمعي، ودائما ما يختلط هذا الشعور مع الرؤية البحثية أو القراءة التاريخية للحدث الماضي بشكل واع أو بشكل غير واع.." وهذا ما حصل في الأوقات اللاحقة للحدث التاريخي في زمن الفتنة، أي أنه تمت إعادة قراءة هذا الحدث الثوري وفق الزوايا الفكرية والأيديولوجية والكلامية التي سادت العصور الوسطى في التاريخ الإسلامي، أي أن مرحلة التدوين سواء التدوين التاريخي أو التدوين الفكري لم تكن مرحلة خالية من الشوائب الفكرية، وإنما هي خاضعة للفضاء الإسلامي الذي كان سائداً، وهو فضاء لا يخلو من صراع فكري وسياسي بين مختلف الطوائف الإسلامية بلا استثناء، ولذلك عادت جميع الفرق إلى التاريخ لتبحث عن مبررات أيديولوجية لموقفها من حاضرها، وكان كل الخلاف ومفجره في كل اللحظات حتى الفكري الخاص منه الاختلاف حول مفهوم الخلافة، بل إنها المفهوم الذي فجر معظم الصراعات في التاريخ الإسلامي حتى في زمن الفتنة، وهي اللحظة التاريخية الحاسمة للكثير من القضايا، فزمن الفتنة شكل معظم الاتجاهات الفكرية والمذاهب الإسلامية المختلفة تشكيلا كان قد أخذ ينحو في الأخير إلى الطريقة الفكرية، بعدما كان وضعا سياسياً تتداخل معه القراءة الدينية للحدث نفسه، أو التبريرات الدينية للخروج من قبل المعترضين على الخلفاء المتنازعين على الحكم، أو في التبريرات اللاحقة لبعض الاتجاهات الإسلامية لما حدث واعتبارها "فتنة"، السكوت عنها قضية دينية بحد ذاتها عند المذهب السني.

تظهر هذه التبريرات كلما أعدنا قراءة الحدث نفسه، فهو حدث ديناميكي مولد للكثير من القضايا والإشكاليات حتى في عصرنا هذا، وهو الذي شكل مجمل التاريخ الإسلامي، مما يؤهله أن يكون حدثاً مفصلياً محولاً التاريخ الإسلامي من الهيمنة الدينية إلى الهيمنة السياسية ثم تحولها لاحقاً إلى هيمنة رجال الدين بعد أحداث محنة خلق القرآن.

ولعل أولى تلك التبريرات التي ظهرت لاحقاً حول الفتنة هي في إقحام شخصية ابن سبأ وتأثيره العميق في مجريات الأحداث، بل تم تضخيم هذه الشخصية لتكون هي السبب الرئيس في إشعال الفتنة في الكثير من المصادر التاريخية القديمة، رغم أن القارئ لسياق الأحداث منذ بدايتها سوف يؤكد على وجود إشكاليات سوف تتفجر مع الوقت كما تفجرت حتى من غير وجود شخصية كابن سبأ. في بعض المصادر التاريخية القديمة تغيب شخصية ابن سبأ، لكن تتكثف في المصادر التي كان لها الهيمنة مثل الطبري وابن كثير وغيرهما، بل إن الكثير من الباحثين المعاصرين يشككون في وجود هذه الشخصية، ونفهم ذلك إذا وضعنا هذا الإقحام لهذه الشخصية في هذه المصادر، عندما نعلم أن الهيمنة السياسية في كتابة هذه المصادر كانت لرجال الدين بعد محنة خلق القرآن، وهي الهيمنة التي ترفض الحديث عن هذه الفتنة، وتعتبر ما حصل اجتهادات بين الأطراف المتنازعة من خلال رؤية مثالية وتقديسية أحيانا لشخصيات التاريخ، وهذه الرؤى هي التي طبعت جل الفكر الحالي حتى في الأعمال الفنية الدرامية التي تريد مقاربة موضوع الفتنة، وهنا يُعمِل التاريخ سلطته من خلال إعادة إنتاجه وفق الرؤى الفكرية المهيمنة.

إن التاريخ لن يكون حقيقياً مهما حاولنا معرفة الحقيقة، ذلك أن المعطيات التاريخية هي معطيات شائبة، إذ عمل التاريخ نفسه على تشكيل "هيمنات" تصنع تواريخ عديدة للحدث الواحد، وبرأيي أننا لن نعرف "الحقيقة التاريخية" رغم صعوبة الجزم بذلك، ما لم تكن هناك خطوة أولى أساسية، وهي نزع سلطة التاريخ نفسه، بحيث نستطيع مقاربة التاريخ من خلال نقد المرويات نقدا موضوعيا، ومقاربة الأحداث بشكل أكثر وعياً وفق المناهج التاريخية الحديثة.