ضل بنو إسرائيل في ـ التيه ـ أربعين سنة. وضاع بنو يعرب في حصاد الثورات لأربعة عقود ونيف وما زالت لغة ثوراتهم تستنسخ ألسنتها القديمة حذو الحرف بالحرف والكلمة بالكلمة. يختلف ـ التيه ـ عن بعضه البعض ويتطابق في قدره على بني العمومة. قبل نيف وأربعين سنة كتب اليمني العملاق، عبدالله البردوني، حال الجماهير إذ يقول:
كانت بلا أرجل تمشي بلا نظر
كان القتال بلا داع سوى المدد
وكيف كنتم تنوحون الرجال؟ بلا
نوح نموت كما نحيا بلا رشد
نوح يموت وننساه بأربعة
فلم يعد أحد يبكي على أحد
كأن البردوني يكتب الأحوال لمساءات الأمس واليوم. وكل ما أخشاه أن تكون قصيدته وضعاً لذات الحال حتى في القادم بعد أربعين سنة. كان عبدالله السلال يخطب في جماهير الثورة اليمنية عن الحرية والعدل والكرامة مثلما يبشر باسندوة اليوم جماهير الثورة الجديدة بذات اللغة. ما هو الفرق اللغوي ما بين الهالك القذافي وبين مصطفى عبدالجليل حين خطب الأول قبل أربعين عاماً ببشائر الحرية والعدل والكرامة؟ أطل عبدالناصر قبل أربعين عاماً بذات البشائر من ذات المفردات: هي ذات المفردات التي تصعق الآذان من أفواه خطباء الثورة. كل ثورة تغسل أختها بذات الدغدغة ولكن مع نفس الحروف والجمل. قبل أربعين عاماً كانت بشائر البعث الكئيب ترفع ذات الكلمات شعاراً على مثلثها الشهير، وانظروا لهذه الكلمات اليوم على لوحات القماش الداكن في مظاهرات شام الحرية والعدل والكرامة. كل ثورة تغسل أختها السابقة، وما أروع البردوني في بيت شعره الأخير: كل طابور يموت ثم ننساه بأربعة أخرى حتى لم يعد بالمكان عين تدمع على عين راحلة. كل ثورة تقتل كتائب الثورة السابقة فكم أرهقتنا هذه الطريق إلى هذه الكلمات الثلاث. هذا العالم من حولنا مشغول بتوصيف ماذا سيكون عليه القرن الثاني والعشرون ونحن ما زلنا نشحذ البدهي الفطري الطبيعي في حق الإنسان التلقائي: الحرية والعدل والكرامة؟